حَمَلَ الجمر

حَمَلَ الجمر

محمد جلال القصاص

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن أحبه واتبع هديه، وبعد:ـ
المشهد النصراني في مصر له سياق عالمي متعلق بالعلمانية، وسياق عالمي متعلق بالنصرانية العالمية التي يقودها الفاتيكان، ومشهد محلي متعلق بنشئة جماعة “الأمة القبطية” وسيطرتها على الكنيسة المصرية وخروجها على النص. وقد تحدثت بشيء من التفصيل في رسالة للدكتور سيف الدين عبد الفتاح بعنوان “على رسلك يا دكتور”، والرابط أسفل المقال.
وسياق تاريخي قديم ومعاصر؛ والسياق التاريخي القديم لنصارى مصر يبين أنهم يخرجون على المجتمع ويطالبون بالانفصال حين يجدون تهاوناً أو ضعفاً من الدولة ولا يرجعون إلا بالقوة، وقد حدث هذا مرة في نهاية القرن الثاني الهجري وعادوا بجيش الخلافة،والسياق التاريخي القديم يبين أنهم يتواطؤن مع الغريب حال الغزو، وقد حدث هذا مع الحملة الفرنسية فقد خرجت كتيبة منهم وقاتلت مع الفرنسيين ضد أبناء الوطن، ولم يكن ثمة اضطهاد يعانون منه قبل قدوم الفرنسيين.
والسياق المعاصر لمن يتدبر الأطروحات الفكرية التي كتبت بيد النصارى في الأرض العربية وكذا مواقفهم كأفراد أو تكتلات ـ في الآونة الأخيرة ـ يجد أنهم مروا بثلاث مراحل:
الأولى: شاركوا في القضاء على الخلافة الإسلامية ـ وأقول شاركوا ـ فمن عندهم خرجت “القومية”؛بل: إن كل القضايا التي أدت إلى انحراف في الفكر الإسلامي كانت بدايتها من عندهم، هم نقلاً عن المستشرقين، أو هم دعماً للمستشرقين.
وفي هذه المرحلة تقمصوا دور العروبة، بل كتب بعضهم مادحاً لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وكان مدحه لهم كعربي .. نبي للعرب، لا كرسول من عند الله!!
والثانية: الخروج للحياة العامة، ومحاولة أخذ مساحة أكبر من عددهم، احتماءً بالمحتل النصراني. وقد كان المحتل يتعاون معهم لا حباً في دينهم وإنما تفتيتاً للدول الإسلامية وبذراً للشقاق وسيلة للسيطرة والبقاء فترة أطول.
والثالثة: هي المطالبة بوطنٍ مستقل، أو السعي من أجل الحصول على وطن مستقل.
فلا يلتبس علينا الأمر ونغض الطرف عن هذا التدرج في الظهور، ولا يلتبس علينا الأمر وننظر للحالة النصرانية على أنها وطنية مخلصة، أو على أنها ليست ذات أهداف خاصة تتحرك وصولاً إليها.
وأشد مما مضى هو الحالة النصرانية الداخلية.. أعني الحالة النفسية للفرد النصراني التابع للكنيسة الأرثوذكسية، إذ قد استلزم العملُ من أجل الانفصال حقيقة أو ضمن الوطن (الاستقلال بقيادة شعب الكنيسة)، غرس مفاهيم خاطئة عن النصارى الأرثوذكس أنفسهم، وأنهم قد سلبوا حقوقهم، وأنهم قد أخذت أرضهم، وأن لهم حقوقاً ضائعة… الخ، وكذا غرس مفاهيم مغلوطة عن الدين وسيد المرسلين – صلى الله عليه وسلم- ، مما أجج صدور هؤلاء وكوَّن عزلة شعورية، ويتعاملون باستقلالية وشكوى دائمة .
فمن السذاجة والسطحية أن نظن أن نغفل عن هذه الجذور للحالة النصرانية، ونحسب أنها حالة من المواطنة، أو: أقلية خائفة تبحث عن الأمن، بل طامعة تريد وطناً، أو تريد الوطن.!!، وهي التي تحرك المشهد السياسي المعارض، أو تتصل بشكل ما بجميع القوى المعارضة وتؤثر فيها!!
ومن السذاجة والسطحية في التحليل أن نحسب أن سياقاً كهذا يأتي على رأسه مناقضٌ له معترضٍ عليه، وخاصة أنهم في طور التكوين، وقيادات التكوين تشتد لغاياتها، وقيادات الصف الثاني تكون أشد من الصف الأول لمحاولتها إثبات ذاتها والتفوق على أساتذتها. فلا نعلق كبير أملٍ على شخص تواضروس، وإنما على معطيات المشهد النصراني، وآلياته في التحرك، ونتعامل معه بما يرجعه عن غيه.
قضى شنودة الثالث حياته يجمع الجمر وتركه لتواضروس، فهو الآن يحمل الجمر على راحتيه ولن يصبر طويلاً إلا في حالة واحدة !!
تشدد جماعة الأمة القبطية في الأمور الاجتماعية الخاصة بالزواج من ثانية والطلاق لغير علة الزنا أوقد البيوت حتى خرج من فيها للمحاكم، واعتماد فكرة “التطليق” التي تحدث عنها تواضروس ستأتي بمشكلة أخرى، وهي زيادة شعبية “ماكسيموس الأول” المنشق على الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، فبالأمس كانوا يكفرونه واليوم يتبنون قوله، وهذا يعني مزيداً من الدعم له.
وأقباط المهجر تمردوا، وتفتتوا فيما بينهم، وأصبحت لهم أجندات وقيادات خاصة، ويضغطون من أجل تنفيذها بما يقدمونه من أموال للكنيسة.
وكثر الخروج من الكنيسة للإسلام (مئات يخرجون شهرياً بصفة رسمية)، وكثرت الانشقاقات الداخلية التي تبنى على خلفية دينية.. إذ يجاهرون بتكفير بعضهم البعض، وسل عن “متى المسكين”و “ماكسيموس الأول” و “جورج حبيب بباوي”، بخلاف البدع التي أقل لا ترقى لمستوى الكفر، كبدعة الخلاص اللحظي، وهي تثير القلاقل الداخلية.
وفوق ذلك أن الأنبا الجديد قرين لغير قليل من القيادات الكنسية بل كان بعضهم متقدماً عليه، وبالتالي لن تكون له ذات السيطرة التي كانت لشنودة الثالث، فالقيادات أقران، وأصحاب نفوذ، ومحاولة تغييرهم تسعديهم، وبالتالي مزيداً من القلاقل.
هذا بخلاف يقظة المسلمين للنصارى المهتمين منهم بالسياسة أو الواقفين في الساحة الدينية.
كل هذه جمرات حملها تواضروس في يديه، والحل العملي الوحيد الذي يستطيع من خلاله أن يخفف من لهيب تلك الجمرات في المدى القريب هو أن يفتعل مشاكل خارجية يجمع عليها الداخل، فمن الثابت في بعض الآليات السياسية أن وجود مشكلة خارجية تنسي الداخل مشاكله وتجمعهم على “العدو” المشترك. فعلينا أن ننتبه لهذا.
وينهي مشاكل تواضروس كلها أن يرحل من الكفر للإيمان، فإن الكفر ريبة والإيمان طمأنينة، كما قال الحبيب – صلى الله عليه وسلم – ، أو يتخلص من تلك الجمرات التي جمعها شنودة الثالث، ويعود ثانية إلى الأديرة يعبد ربه خفية ويدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، كما أوصاه من كتب كتابه.
تراه يفعل؟!
إن التجربة تقول أنهم لا يرجعون إلا بضغط. إلا بقوة. إلا حين لا يجدون ملجأ أو مغاراتٍ أو مُدخلاً.

عن marsad

اترك تعليقاً