كيف بنى النبي صلى الله عليه وسلم أقوى جيوش العالم؟ (6)
د. شوقي الميموني
لا يزال حديثنا في هذا المقال عن البناء البدني وهو الشق الثاني لبناء الرجال وهو من الوسائل المهمة التي استخدمها النبي صلى الله عليه وسلم لتحقيق الهدف الرئيسي (بناء الرجال) الذي رسمه لبناء الدولة.
وكما ذكرنا في المقال السابق حرص النبي صلى الله عليه وسلم على ممارسة الرياضة بنفسه أولاً فكانت النتيجة جسم قوي متناسق مكتمل جميل حاز إعجاب كل من رآه.
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بممارسة الأعمال البدنية التي تؤدي في النهاية الى تقوية أجسامهم وحفظه سليماً معافى وهو ما يطلق عليه في وقتنا الحاضر الرياضة البدنية.
والرياضة هي مجموعة من الأعمال يقوم بها الإنسان بصورة فردية أو جماعية لغرض تنمية الجسم وتدريبه وإشغال الوقت وتهذيب السلوك.
لقد دعا الإسلام إلى ممارسة الأنشطة الرياضية المفيدة، ورغب النبي صلى الله عليه وسلم بها ووجه الصحابة إليها وذلك لما فيها من تقوية لأجسامهم والمحافظة عليها سليمة.
في الحديث قال صلى الله عليه وسلم: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير”. (صحيح مسلم، كتاب القدرة)
فالإنسان عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك، فغذاء العقل العلم، وغذاء القلب الحب، وغذاء الجسم الطعام والشراب والرياضة، فإذا لبى الإنسان الحاجات الثلاث تفوق، والرياضة توفر للجسم قوته، وتزيل عنه الأمراض بطريقة طبيعية، والناس من قديم الزمان لهم طرق وأساليب في تقوية أجسامهم، وكل أمة أخذت منها ما يناسب وضعها ويتصل بأهدافها.
والرياضة في منهج النبي صلى الله عليه وسلم وسيلة مهمة للوصول إلى (رجل قوي) الأصل فيها الإباحة بشرط أن تكون الممارسة بريئة من كل معصية، وهادفة إلى تقوية الأبدان، وتقوية الأرواح.
والإسلام يحض على تقوية الأجسام بل يريد من المؤمن أن يكون قوياً في جسمه، وفي عقله، وفي أخلاقه، وفي روحه، لأن الحق يحتاج إلى القوة.
لذا نجد الفرق بين فلسفة الإسلام (للحق) وغيره من الأمم غير المسلمة، ففي الأمم الأخرى (الحق) هو القوة، أما في نظر الإسلام، الحق ما جاء به الكتاب والسنة لكنه يحتاج إلى قوة، لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: المؤمن القويُّ خيْر وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف].
والجسم القوي أقدر على أداء التكاليف الدينية والدنيوية، كما أن الإسلام لا يشرع ما فيه إضعاف الجسم إضعافاً يعجزه عن أداء هذه التكاليف، بل خفف ببعض التشريعات إبقاء على صحة الجسم، فأجاز أداء الصلاة قعوداً لمن عجز عن القيام، وأباح الفطر لغير القادرين على الصيام، ووضع الحج والجهاد عن غير المستطيع.
وقد قال النبى لعبد الله بن عمرو بن العاص، وقد أرهق نفسه بالعبادة صياماً وقياماً: صم وأفطر، وقم ونم، فإن لبدنك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً. [متفق عليه عن عبد الله بن عمرو بن العاص]
ومظاهر الرياضة البدنية في الإسلام كثيرة، والتكاليف الإسلامية نفسها يشتمل كثير منها على رياضة الأعضاء، إلى جانب إفادتها في رياضة الروح، واستقامة السلوك فالصلاة والصوم والحج تكاليف دينية فبجانب كونها روحية لكنها في الوقت ذاته رياضة بدنية تعزز من قوة الجسم وسلامته.
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغفل عن تنمية الروح الرياضية في أصحابه والتي يؤدي غيابها الى إثارة الأحقاد والعداوات بل وتؤدي في بعض الأوقات إلى اندلاع الحروب فحرب داحس والغبراء مثالاً حيا على ذلك.
تذكر كتب السير أن أعرابي سبق بجمله ناقة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ التي كانت لا تُسْبق، وشقّ ذلك على المسلمين ، فتمثلت في النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ الروح الرياضية كما يعبر عنها في وقتنا الحاضر ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن حقاً على الله ألا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه) أشار إلى ناقته التي كانت الأولى دائماً والتي لم تربح في ذلك السباق، وهذا من أدبه، ومن حكمته، ومن هديه، هدأ بهذا الكلام ثائرة المتحمسين له.
وتسابق مع عائشة رضي الله عنها فقالت: (تسابقت أنا ورسول الله فسبقته، فلما ركبني اللحم سبقني، فقال: يا عائشة هذه بتلك.) يعني في مفهومنا الحاضر (تعادل) .
وبهذا نعرف مدى شمول منهج النبي صلى الله عليه وسلم لكل مظاهر الحضارة، والإطار العادل الذي وضعه للمصلحة العامة، ويلاحظ في المثالين السابقين فطنة النبي صلى الله عليه وسلم في أن التربية الرياضية لا تثمر ثمرتها المرجوة إلا إذا صحبتها الرياضة الروحية الأخلاقية، فإذا حدث انتصار لفرد أو لفريق، كان الفرح بذلك ما تقتضيه طبيعة البشر، وإذا كان غير ذلك فقد علم أصحابه كيف تكون ردة فعلهم وكيف يمتلكون الروح الرياضية العالية.
نتوقف هنا ونكمل الحديث حول الموضوع في المقال القادم إن شاء الله.