بقلم: د. سعيد الحاج
بدا لافتاً امتناع تركيا عن توقيع وثيقة مكافحة “داعش” التي وقعتها الولايات المتحدة الأمريكية مع عشر دول عربية، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنها ستكون خارج المعادلة، كل القصة أن تركيا لها حساباتها المختلفة ورؤيتها المتمايزة كذلك.
تُدرك تركيا، قبل غيرها ربما، أن الحلف أمر واقع وأن الحرب قادمة لا محالة، وتعرف بما لها من خبرة سياسية وعلاقات دولية أنها لا تملك ترف الرفض القاطع للمشاركة في الحلف، ولكنها تسعى ـــــ من خلال موقعها وعناصر القوة لديها ـــــ إلى تقليل أضرار الحرب وزيادة فوائدها قدر الإمكان.
تعوّل تركيا هنا على الجغرافيا السياسية التي تنطق بحقيقة عدم إمكانية تجاهلها في أي عمليات عسكرية أو استراتيجية في العراق (وسوريا)، فهي التي تملك حدوداً مع الدولتين، وهي عضو (الناتو) الوحيد المتواجد في المنطقة، وهي التي تحتضن القواعد العسكرية، وتملك الإمكانات الإستخباراتية القريبة من مواقع الأحداث.
ولئن كانت أنقرة مدركة لخطر “داعش” وتمدد التطرف على حدودها، إلا أنها أيضاً ولا شك مدركة أن هذه الحرب لن تتوقف عند هذا الحد، بل ستتطور وتتمدد لتُعيد رسم الخرائط والتوازنات والكيانات السياسية في المنطقة، تماماً كما فعل التحالف الدولي السابق ضد صدام حسين. والأمر كذلك، فلدى أنقرة شكوك وتخوفات، ولكن لا يمكنها في إطار هذه الرؤية أن تبقى خارج المشهد، وبالتالي خارج دائرة الفعل والتأثير.
بيد أن المشاركة الفاعلة من تركيا في حرب من هذا القبيل تنطوي على مخاطر كبيرة أيضاً عليها، مرة أخرى بفعل الحدود الطويلة ـــــ وغير المؤمنة ـــــ مع كل من العراق وسوريا، وخوفاً على حياة 49 مواطناً تركيا تحتجزهم “داعش” منذ أشهر، وتحسباً لأن يقع الدعم العسكري الذي تنوي الولايات المتحدة تقديمه في أيدي عناصر مقربة من حزب العمال الكردستاني، أو أن تؤدي العملية العسكرية ضد “داعش” إلى تقوية نظام الأسد في دمشق.
فإذا ما وضعنا كل هذه العوامل المتشابكة بعين الاعتبار، سنجد أن تركيا لا يمكنها إلا المشاركة، ولكن أيضاً لا يمكنها المشاركة الفاعلة أو العلنية، فكانت معادلة “المشاركة السلبية” هي الحل الأمثل الذي قدمته أنقرة لحلفائها. تقدم تركيا في إطار هذه المشاركة الدعم اللوجستي، والمساعدات الإنسانية، والخدمات الإستخبارية، بينما تمتنع تماماً عن المشاركة في العمليات العسكرية، أو السماح باستعمال مجالها الجوي أو قواعدها العسكرية في العمليات الحربية المباشرة.
لكن التحالف، كما أسلفنا قبل قليل، لن يكتفي بالحرب على “داعش”، بل هو تحالف دولي سيُناط به تغيير الكثير من الأمور في المنطقة. فطبيعة هذه الخطوات السياسية الكبيرة أن تصطحب معها تسويات وصفقات وتبريد ملفات ساخنة وإسكات أصوات معارضة، رأينا إرهاصاتها في إيقاف العدوان على غزة، ثم في طلب قطر من قيادات في التحالف الوطني لدعم الشرعية مغادرة أراضيها. فكيف سيكون موقف تركيا الداعمة لشعوب المنطقة في ربيعها العربي؟ أعتقد أنه ينبغي التريث قليلاً قبل الحكم، ولكن الرياح الدولية عاتية جداً هذه المرة، وربما تُجبر الكثيرين على خفض الرؤوس قليلاً ريثما تمر العاصفة.
مازالت حتى الآن عمليات الأخذ والرد بين الحلفاء مستمرة، ففي حين تضغط الإدارة الأمريكية على تركيا لأخذ دور فعَّال في التحالف وتؤكد تصريحاتها مشاركة أنقرة على أن تتضح معالم دورها لاحقاً، تُصر الأخيرة على أن الحل العسكري ليس كافياً بمفرده لحل المشكلة، بل تحتاج المنطقة إلى إزالة أسباب التوتر والعنف، وعلى رأسها خطوات مثل المشاركة التعددية في العراق، وإسقاط نظام الأسد، ومساعدة معارضة وشعبي البلدين.
الخطة الأمريكية المعلنة تتفق حتى الآن مع الرؤية التركية، فأدخلت سوريا في الخطة مع العراق، وتحدثت بشكل واضح عن دعم الجيش السوري الحر، واكتفاء الحرب ـــــ على الأقل الآن ـــــ بالضربات الجوية دون معارك برية، إضافة إلى تقديم العون للأكراد في إقليم شمال العراق.
لكن، في كل الأحوال، ليس هناك شيء واضح تماماً، فقد تمت الدعوة لإنشاء التحالف للقضاء على “داعش” في البداية، ثم صرح وزير الخارجية الأمريكي يوم أمس أن الحرب لن تكون “فقط” على “داعش”، ولكن لمحاربة “الإرهاب” أياً كان مصدره وشكله، ولا تزال الأحداث منفتحة على تطورات وتغيرات قد لا يمكن التكهن بها.
ويبقى الشيء الأكيد هو أننا على أعتاب مرحلة جديدة في المنطقة، لا تقل خطورة وتأثيراً عن حرب الخليج الثانية ربما، والتخوف الأكبر أن نكون كعالم عربي ـــــ إسلامي ضحية هذه التحولات الكبرى والمخططات الدولية، فالأوضاع الراهنة سكين ذو حدين يُريدنا الغرب أن نبتلعه، لنكون خاسرين في كل الحالات. ولذلك تتجه الأنظار إلى الدولة الإقليمية القوية ـــــ تركيا ـــــ التي لا تقل اندماجاً مع هذا الواقع وتأثراً به من شعوب المنطقة العربية.