مع أصغر أسير سياسي في العالم

الطفل فرج

مع أصغر أسير سياسي في العالم

صالح بن عبدالله السليمان

عندما أمسكت بالقلم لأكتب حول هذا الطفل الليبي البطل الذي اعتبرته المحكمة الجنائية الدولية أصغر أسير ليبي خلال الثورة الليبية تقاذفتني عدة مشاعر لا أعلم كيف ابدأها ، وهل هي صرخة في من كانوا إلى وقت قريب نعتبرهم منا مسلمين اختلفنا معهم في الرأي السياسي وصل الخلاف إلى قتال ولكن هذه الحادثة تظهر بجلاء أنهم تجاوزوا مرحلة الوحوش الإنسانية ووصل بهم الشر إلى مرحلة جديدة لم يصل لها أحد قبلهم .

سأذكر لكم القصة من أولها، لأنها توثيق مهم لحادثة يجب أن تبقى في الوعي الإنساني وليس الليبي فقط .

علمت أن هناك طفل صغير لا يتجاوز سنه الأربع سنوات يعالج في الأردن إثر إصابته في أحداث تتعلق بالثورة وأعلم أن الجنائية الدولية اعتبرته أصغر أسير فسعيت لمقابلته وهكذا كان، ولكن المفاجئة كانت أكبر مما استطعت استيعابها فلقد كنت أمني النفس بمقابلة معه ولكن الطفل الذي حضر . لم يكن من الممكن أن أجري معه مقابلة فلقد كان أبكم وأطرش لا يستطيع الكلام فكان اللقاء مع والده.
فسألته أن يتحدث بالتفصيل عما جرى له وكيف وصلت حالته إلى ما هي عليه وتركت له المجال مفتوحا لكي يتحدث.

فقال السيد صلاح الدين احمد الكردي والد الطفل (فرج) ذي الأربع سنوات والمولود في طرابلس عام 5- 7- 2008 أنه في يوم 20 فبراير 2011 تنادينا نحن من خلة الفرجان وشباب من سوق الجمعة ومن الزاوية الغربية أن نخرج في مظاهرة تضامنا مع إخواننا في بنغازي على أن نلتقي جميعا في الساحة التي كنا ندعوها سابقا ” الساحة الخضراء ” لم نكن نطالب بإسقاط النظام حينها بل كنا نتضامن مع إخوان لنا يقتلون في بنغازي وجب علينا نصرتهم ووجب علينا أن ندعو لوقف سفك الدم .

وقبل خروجي من المنزل أنا وأبني الكبير للالتحاق بالمظاهرة تعلق بنا ” فرج ” وأخذ يطالبنا بالخروج معنا ولم نكن نعلم بمدى الوحشية التي سنقابلها فهي لم تكن تخطر حتى في الأحلام بل وفي أسوأ الكوابيس فنحن لم نكن نطلب حراما أو ممنوعا بل نطلب حقن دماء أخواننا فقط، خرجنا ندعم مدينة من مدن وطننا خرجنا لدعم بنغازي، كان عددنا لا يتجاوز الألف عندما وصلنا إلى شارع السّيديّ وتحديدا في الجزيرة المقابلة لمركز شرطة بن غشير، وجدنا أنفسنا محاصرين بمجموعة كبيرة من أفراد الحرس الشعبي، بل وعددها أكثر من عدد المتظاهرين.

قوبلنا بالرصاص الحي كنا نسمعه حولنا يصم الآذان وبضرب بالهراوات دون تمييز، أصبت أنا بكسور في الضلوع وأصيب فرج بضربة على الرأس وأصيب ابني الآخر بكسور في الضلوع، وليت الآمر توقف عند هذا الحد، بل تم تحميلنا بطريقة لا تنتمي لأي صفة إنسانية ألقي بي أحدهم أنا وفرج في شنطة ( صندوق ) سيارة لن أنساها ما حييت كانت سيارة مدنية كامري سوداء اللون حينها كان الوقت قريب للعصر ولم نشعر إلا ونحن في معسكر 77 طريق السور، وذلك المعسكر يقوده منصور ضو الذي شاهدته وهو يتفقد الأسرى ويلقي بالأوامر .

هنا بدأت موجة أخرى من التعذيب .

أصبح الضرب بالهراوات شيء طبيعي عدا السب والشتم وكان لفرج نصيب كبير من هذا أخذ الوحوش يطلقون نيران الكلاشينكوف حوله عن يمينه وعن يساره كأنهم يتسلون بتعذيب حيوان، وحتى تعذيب الحيوان حرام ، ولكن كيف تستطيع التفاهم مع من فقد ابسط معاني الإنسانية.
بقينا على هذه الحال من التعذيب المتواصل أيام كثيرة لا استطيع عدها فلا نعرف ليل من نهار كان ” فرج ” حينها صامت يجول بعينيه وسط هذا الجحيم المتواصل .

الحق يقال أن ليس كل الضباط كانوا راضين عن وجود فرج في المعتقل وبعضهم حاول أن يخفف عنه والبعض الآخر كان يناقش الوحوش يطالبهم بالكف عن آذيته ولكن الجواب كان أما برشقات من الكلاشنكوف حوله أو بصفعة أو بضربة بهراوة وبلغ الأمر أن أحد الضباط الشرفاء وأسمه منصور ( من سبها ) استقال وخرج من عمله احتجاجا على ما كان يحدث .

وبعد أيام أخرجنا من المعتقل كلنا مصاب . كلنا يعاني، ولكن هيهات أن نحصل على رعاية فقد كانت الكتائب تراقب المستشفيات، ويتم التخلص من أي جريح يحاول الحصول على علاج ولم نكن نعلم أن مصاب فرج اكبر من هذا .

بدأ فرج يعاني من نوبات صرع وإغماءات وكان صامتا تماما لا يتكلم، بل ولا يرد على أحد، كنا نعتقد أن ما هو فيه إنما حالة نفسية يمر بها، وأزمة سيتجاوزها، ولكنها زادت وتواصلت مما دفعني إلى الهروب إلى تونس قبل تحرر طرابلس بأيام قليلة وهناك عرفت أن فرج مصاب بخلل في الدماغ اثر الضرب، وتلف بالعصب السمعي ويحتاج إلى تدخل جراحي لإزالة الضغط على العصب .

فلم أتمكن من إجراء الجراحة له وكنت أحاول أن أجد له علاجا غير التدخل الجراحي , فحضرت إلى الأردن وهنا اكتشفنا مشكلة أخرى ففرج أصبح يصاب بالذعر حينما يرى أي بدله عسكرية واكتشفنا هذا عندما دخلنا إلى مدينة الحسين الطبية وكل الأطباء والعاملين يلبسون اللباس العسكري وعندما يراهم يبدأ الصراخ ويلتصق بي هربا منهم والآن أي علاج أو فحوصات تجرى له يلزم أن يخدر تخديرا كاملا، مما يعوق عمل الأطباء وهذه مشكلة أخرى نرجو من الله أن تزول حيث أن فرج الآن يعالج عن دكتور في السلوكيات فغير حالة الرعب التي ذكرت فهو أصبح منعزلا انطوائيا وحاد الطباع يستيقظ في الليل يصرخ رعبا .

عندما كنت في تونس عرفت أن منزلي تعرض للنهب وللحريق وإطلاق كل أنواع القذائف عليه مما دمره دمارا كاملا حقدا وكرها لنا وخصوصا عندما انتشر أن حالة فرج سجلت لدى الجنائية الدولية وكذلك لأني أنا وأخوه وحتى هو اعتبرنا حسب وصفهم من ” الجرذان ” وحسبنا الله ونعم الوكيل .
وبدأ الأب يعرض علي صور التلف الكامل الذي تعرض له المنزل وكنت أركز على الطفل فوجدت وجهه قد تغير وبدا عليه الحزن والغضب فطلبت من الأب أن يخفي الصور لأن فرج يسوءه أن يرى المنزل الذي ولد به وتربي ولعب محروقا تالفا هكذا .

هذه هي قصة فرج , وتحتاج إلى الكثير من الجهد , والكثير من العمل , ويجب توثيقها , فهي فصل من فصول كفاح الليبيين للحصول على حريتهم , فهو وإن كان اصغر معتقل سياسي في العالم , وأقول هذا لأن بقية الأطفال اعتقلوا من منازلهم , أو اعتقلوا لإخافة والديهم , ولكن فرج اعتقل لأنه شارك في مظاهرة تعبير عن رأي فهو وبجدارة يستحق أن يلقب ب ” أصغر معتقل سياسي في العالم “.

عن marsad

اترك تعليقاً