الصورة التي قهرت دولة

الصورة التي قهرت دولة

د. سفيان ابو زايدة

ليست هذه المره الاولى  التي تفضح فيها صورة التقطت في اللحظة المناسبة الادعاء الاسرائيلي بزيف شفافية الاحتلال و نزاهته و أحترامه لحقوق الانسان، حيث في كل مره يكون التبرير  ان هذا امر شاذ و لا يعكس السلوك الحقيقي للجيش الاسرائيلي وان تحقيقا سيتم فتحه للتحقيق بهذا السلوك الاستثنائي او ذاك ، وان اجراءات ستتخذ لمحاسبة من تصرف بشكل فردي و اساء الى الصورة المُشرقة للجيش الاسرائيلي.
المجتمع الاسرائيلي في غالبيته العظمى لا يؤمن حتى الان انه لا يوجد احتلال انساني او اخلاقي، وان الاحتلال وحقوق الانسان لا يلتقيان ولا يوجد على وجه الكرة الارضية احتلال محترم ولا يمكن  ان يكون الا مُظلما وظالما . الاسرائيليون يقنعنون انفسهم انهم شيئ مختلف تماما عن بقية البشر وبالتالي اي سلوك غير محترم هو سلوك شاذ ولا يعكس الصورة الحقيقية لهم.
الحظ السيئ بالنسبة لهم، ان التطور التكنولوجي و انتشار اجهزة التصوير المختلفة و سهولة الاتصال و النشر لم يترك مجال لماكينة الدعاية الاسرائيلية باخفاء الحقيقة احيانا او قلبها في احيانا كثيرة، وان كل ما تبذله اسرائيل من جهد وتجند له افضل العقول وتخصص له الموازنات الكبيرة من اجل تجميل وجه الاحتلال يمكن نسفه في لحظة واحدة من خلال الكاميرا الموجودة على جهاز الموبايل والذي قد لا يتجاوز ثمنه عشرات الدولارات.
تجربة اسرائيل مع الصورة ليست تجربة حديثه. في العام 1983 ، اختطف ثلاثة شبان فلسطينيين باص اسرائيلي  بالقرب من عسقلان واجبروا سائقه على التوجه نحو غزة. اجهزة الامن الاسرائيلية اجبرت الباص على الوقوف قبل تجاوزه الحدود وحررت الركاب بعد ان اقتحمت الباص. القصة بدأت عندما اعلن الجيش الاسرائيلي وبروايات مختلفة وبنوع من الارباك الذي يفتقد الى المصداقية بأن الخاطفين قد قتلوا جميعا.
الى هنا كان من المفروض ان تنتهي القصة الى هذا الحد، حيث يوجد بها كل شيئ يتناسب مع الثقافة الاسرائيلية. شباب فلسطينيين ارهابيين، حيث لا يمكن ان يكون الفلسطيني سوى ارهابي، الا في حالات استثنائية فقط. ضحايا اسرائيليين ابرياء من نساء واطفال ومدنيين عُزل يتعرضون الى اختطاف او اعتداء ، وبطولة اسرائيلية أستثنائية في تحرير الرهائن وعدم الخضوع للارهاب.
الحظ الاسرائيلي السيئ ، انه وفي اليوم التالي نشرت صحيفة “هعولام هزيه” المعارضة والتي كان محررها محارب السلام الاسرائيلي الشهير اوري افنيري صور لاثنين من الشبان الفلسطينيين الخاطفين وهو يمسك بهم اثنين من رجلات الامن ويبدون بحالة صحية جيدة دون جروح او اصابات ليدلل على انه قد تم اعتقالهم احياء ومن ثم تم تصفيتهم بدم بارد.
صورة افنيري خلقت حالة من الارباك والجدل الداخلي الاسرائيلي تخلله اتهامات متبادلة بين الجيش والشاباك حاول كل طرف تحميل مسؤولية اعدام الشبان الفلسطينيين بدم بارد. النتيجة انتهت بتشكيل لجنة تحقيق خلصت الى استنتاج ان الشاباك يكذب ورجال المخابرات هم الذين يتحملون المسؤولية ، ليكتشف الرأي العام الاسرائيلي انه لم يكن هناك قيم او اخلاق عندما تم اعدام اسرى بدم بارد، وان رجال المخابرات التي كانت صورتهم في اذهان الاسرائيليين وردية حيث يتمتعون بمصداقية عالية ولا يعرفون الكذب قد تحطمت.
منذ ذلك الحين تم نشر الكثير من الصور التي تعكس همجية سلوك الاحتلال، خاصة خلال الانتفاضة الاولى، في اواخر سنوات الثمانينيات وبداية التسعينات. الكاميرات التي كانت في المكان والزمان المناسبين نقلت صور لجنود اسرائيليين وهم ينكلون بالفلسطينيين. نمطية الرد الاسرائيلي في كل مره يلتقط فيها صورة تفضح سلوك جنوده تكون ان هذا امر شاذ ولا يعكس سلوك واخلاق الجيش الاسرائيلي الذي يشجب ويستنكر ويهدد بمحاسبة من تصرفوا بشكل فردي.
الصورة الاخيرة للضابط الاسرائيلي وهو يضرب ناشط السلام الدينماركي اصابت الدعاية والاعلام الاسرائيلي في مقتل، والضرر الذي تسببت به لن يكون سريع الزوال، حيث سلطت الضوء على ثلاث امور لم يعد بالامكان تجاهلها:
اولا: ان من تم الاعتداء عليه هو ليس فلسطيني، كرامته وجسده وحقوقه وانسانيته غير مهمة ليس فقط للجندي الاسرائيلي، بل ايضا للرأي العام الاسرائيلي بشكل عام. من تم الاعتداء على كرامته وجسده وانسانيته هو مواطن اوروبي، وليس فقط اي مواطن، بل مواطن من الدينمارك التي تعتبر من اكثر الدول المؤيده لاسرائيل قياسا مع الدول الاخرى. اسرائيل ستبذل الكثير من الجهد من اجل تخفيف الاضرار التي سببتها صورة هذا الضابط الاسرائيلي الذي يعتدي بشكل و حشي على انسان اعزل دون وجه حق.
ثانيا: لقد بذلت اسرائيل جهدا اعلاميا كبيرا من اجل منع المتضامنين من الوصول الى المناطق الفلسطينية. الخط الاعلامي اعتمد على ان هؤلاء يسعون الى تشويه وجه اسرائيل وانتزاع الشرعية عنها، وان التنظيمات والجهات التي تشجعهم هي جهات لا سامية معادية، وان الوضع في المناطق المحتلة هو وضع مثالي وليس بحاجة الى تضامن. المعركة الاعلامية شارك فيها موظفون من وزارة الخارجية الاسرائيلية، ومكتب رئيس الوزراء وجهاز الامن العام والموساد والتنظيمات اليهودية في اوروبا. صورة الضابط وهو يضرب المتضامن نسفت كل هذا الجهد بلمح البصر.
ثالثا: الضابط الذي اعتدى على الناشط الدولي، وهذا ما اخفته وسائل الاعلام الاسرائيليه، هو ضابط من اتباع المعسكر الديني الصهيوني القومي الذي يقود عملية الاستيطان في الضفة الغربية. الضابط شالوم آيزنرهو خريج المدرسة الدينية ” مركاز هاراف” التي تعتبر المعقل الفكري للمستوطنين. افكار هذه المدرسة التي اسسها الحاخام ابراهم كوك اضافة الى العشرات من المدارس الدينية التابعة لها فكرياٌ وسياسياً والمنتشرة في مستوطنات الضفة تنعكس بشكل تدريجي على سلوك الجيش الاسرائيلي.
الاحصاءات الاخيرة تشير الى ان حوالي 30% من قادة الوحدات القتالية المختارة في الجيش الاسرائيلي هم من خريجي هذه المدارس المتطرفة حيث يتلقون تعليمهم الديني على يد اكثر رجالات الدين تطرفا في اسرائيل وفي احيانا كثيرة يعتبرون ان ولاءهم يجب ان يكون لهؤلاء وليس الى قيادات الجيش، خاصة اذا كان هناك تعارض بين اوامر الجيش واوامر رجالات الدين.

عن marsad

اترك تعليقاً