سيد قطب.. شهيد الظلال .. البراءة من كل الأكاذيب

سيد قطب.. شهيد الظلال .. البراءة من كل الأكاذيب

شبكة المرصد الإخبارية – الحصاد المصري

مقدمة:
إن كلماتنا ستبقى ميتة أعراسًا من الشموع لا حراك فيها جامدة حتى إذا متنا من أجلها انتفضت حية وعاشت بين الأحياء”

وبالفعل مازالت كلمات الشهيد (بإذن الله) سيد قطب حية حتى الأن، توعّي العقل، تنير الدرب، توجه القلب لوحدانية الرب. سيد قطب الشهيد الذي هز قلمه عروش الطغاة، فظنوا في إعدامه راحتهم، ولأن الأفكار لا تموت بموت صاحبها، ظلت أفكاره وكتبه تؤرق كل طاغوت فيطاردوا معتنقيها ويتهموهم بالتكفير و التطرف.

“فهو شهيد لا إله إلا الله عليها عاش ومن أجلها مات وعليها يبعث إن شاء الله”

إن حياة “سيد قطب” تعد سلسلةً متصلة الحلقات، في تتابع مستمر يسلم الباحث إلى النهاية الطبيعية لبدايتها، دون أن يشعر في صحبتها بتحول مفاجئ، أو تغيير غامض، أو انتقال كبير.
فهي تنمو في ثبات ممتد، بعد ما هيأ له القدر مولدًا معينًا، ونشأةً وتربيةً خاصةً شكلت ملامح نفسيته الأولى، وهو بعد طفل صغير، ثم لم ينفك عنها في كل مراحل عمره؛ حتى أصبحت هي القاعدة الأساسية التي راح ينطلق منها في كل أقواله وأفعاله.

سيد قطب في سطور:

وُلد صاحب “الظلال” سيد قطب إبراهيم في قرية “موشه” التابعة لمحافظة أسيوط في صعيد مصر عام 1324هـ الموافق 9 / 10 / 1906م، ودخل المدرسة الابتدائية في القرية عام 1912م، حيث تخرّج فيها عام 1918م، ثم انقطع عن الدراسة لمدة عامين بسبب ثورة 1919م
وفي عام 1920م سافر إلى القاهرة للدراسة، حيث التحق بمدرسة المعلمين الأولية عام 1922م، ثم التحق بمدرسة “تجهيزية دار العلوم” عام 1925م، وبعدها التحق بكلية دار العلوم عام 1929م، حيث تخرج فيها عام 1352هـ – 1933م حاملاً شهادة الليسانس في الآداب.

عُيِّن بعد تخرجه مدرسًا في وزارة المعارف بمدرسة الدوادية بالقاهرة، ثم انتقل إلى مدرسة دمياط عام 1935م، ثم إلى حُلوان عام 1936م، وفي عام 1940م نُقل إلى وزارة المعارف، ثم مُفتشًا في التعليم الابتدائي، ثم عاد إلى الإدارة العامة للثقافة بالوزارة عام 1945م، وفي هذا العام ألّف أول كتاب إسلامي وهو “التصوير الفني في القرآن”، وابتعد عن مدرسة العقاد الأدبية.

وفي عام 1368 هـ – 1948م، أوفدته وزارة المعارف إلى أمريكا للاطلاع على مناهج التعليم، ونظمه، وبقي فيها حوالي السنتين، حيث عاد إلى مصر في عام 1370هـ 1950م، وعُيِّن في مكتب وزير المعارف بوظيفة مراقب مساعد للبحوث الفنية، واستمر حتى 18/10/1952م حيث قدَّم استقالته.

عمل “سيد قطب” في الصحافة منذ شبابه، ونشر مئات المقالات في الصحف والمجلات المصرية كالأهرام والرسالة والثقافة، وأصدر مجلتي “العالم العربي” و”الفكر الجديد”.

ترأس جريدة “الإخوان المسلمون” الأسبوعية عام 1373هـ – 1953م وهي السنة التي انتسب فيها إلى الإخوان المسلمين رسميًا، وكان قبل ذلك قريبًا من الإخوان، متعاونًا معهم.

قُدم للمحاكمة يوم 22/11/1954م، وحكمت عليه المحكمة بالسجن لمد خمسة عشر عامًا،  وأُفرج عنه بعفو صحي عام 1964م.

وفي عام 1965م اعتُقل، ثم حُكم عليه بالإعدام فجر يوم الإثنين 13 جمادى الأولى 1386 هـ الموافق 29 أغسطس 1966.
دماء….. وبيعة
يروي الأستاذ “سيد قطب” كيف أنه لاحظ الفرحة التي عمّت الولايات المتحدة حين سماعهم بمقتل الإمام “البنا”، حيث خرجوا يرقصون، ويغنون، ويتبادلون التهاني!
وحين تساءل عن الأمر قيل له: إن أخطر عدو للغرب وأمريكا قد قُتل بمصر، وهو “حسن البنا” المرشد العام للإخوان المسلمين.

استغرب “سيد قطب” أن يكون هذا شأن البنا، وهو لم يعرفه حين كان بمصر، فقرر أنه إذا عاد إلى مصر فسيبادر للاتصال بجماعة الإخوان المسلمين التي أسسها “حسن البنا”، ويتعاون معها.

عاد “سيد قطب” فاستقبله وفد كبير من شباب الإخوان – الذي أهدى إليهم كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) – استقبالاً حارًا، وكان له أبلغ الأثر في مشاعره تجاه الإخوان، ولكنه لم يكن إلى هذه اللحظة قد انضم إلى جماعتهم بشكل رسمي، وإنما كان ذلك مجرد تقارب، وتعاطف متبادل، لم يره “سيد قطب” كافيًا ليدفعه إلى الانضمام إليهم، – وقد دعى إلى ذلك – وإلى تحمل عبء الدعوة الإسلامية معهم ؛ لأنه “لم يكن – كما ذكر للأستاذ أبي الحسن الندوي، في لقاء بينهما في 25/11/1951م – قد اجتاز المراحل الأولى في التربية الإسلامية، وإعداد النفس، وأنه لا تزال هناك معركة قائمة بين بيئته، وما هو فيه من راحة ورخاء وفرص، وبين ما يطلبه الإيمان والجهاد من التضحية والإيثار والزهد، والقوة الروحية”، ولكن هذا التقارب أخذ يزداد يومًا بعد الآخر، عندما بدأ يكتب في مجلة (الدعوة) الإخوانية منذ فبراير 1951م إلى أن دُعي في أوائل 1953م ليشارك في تشكيل الهيئة التأسيسية للجماعة، تمهيدًا لتوليه الإشراف على قسم الدعوة، وهي إحدى الإدارات المركزية بالمركز العام للإخوان المسلمين بالقاهرة.

عندئذ كان “سيد قطب” قد استكمل كل عناصر الإيمان بهذه الجماعة وبمبادئها، “كأنجح تجربة إسلامية – حسب قوله – في خلال القرون الأربعة الأخيرة في كل البلاد الإسلامية”.
كما استكمل كل مقومات الجهاد في سبيل الدعوة الإسلامية التي ملكت عليه حياته، وخاصةً بعد ما استقال من عمله الحكومي؛ حتى صار داعيةً من الدعاة البارزين بعد حسن البنا، وإمامًا من أئمة الفكر الإسلامي في مصر.

وبكل الولاء الذي عُرف به “سيد قطب” – عندما يقتنع بأمرٍ ما – أخلص للدعوة الإسلامية، وخاض مع الإخوان المسلمين كل مراحل الصراع، والمحنة التي بدأت منذ عام 1954م، إلى أن أُعدم في عام 1966م.

بين التخرج والاستشهاد

ويتخرج “سيد قطب” من دار العلوم ويمارس كتابة الأدب والشعر، ويعمل في عدد من الصحف والمجلات كالأزهر والرسالة والأسبوع والشرق الجديد والعالم العربي
ويقيم سيد بعد موت والديه في القاهرة مع شقيقه وشقيقتيه في مسكن يضم الجميع، فيه رعاية حانية من الأخ الكبير الذي أصبح مسئولاً عن رعاية هذه الأسرة الصغيرة.

وفكّر في الزواج وتمت خطبته إلى إحدى الفتيات.. ولكن لم تدم طويلاً!، ولكنها أثمرت فقط إحدى قصصه التي صورت شفافية روحه في علاقته القصيرة الطاهرة بهذه الفتاة..، ربما حمل اسم القصة “أشواك” ما تحملته مشاعره الرقيقة الدفاقة التي ساقها إلى الناس بعد ذلك أدبًا رفيعًا في عالم القصة.

وفي سنة 1948م وحتى أواخر 1950م يمضي في بعثة حكومية من وزارة التربية إلى الولايات المتحدة لدراسة نظم التربية فيها.. وصبِّها صبًّا في عقول الشباب في مصر‍!!
ولكنه يعود ليصرح أنه لم يجد بُدًا من اتخاذ المنهج الإسلامي أساسًا للتربية في مصر!! وكان ذلك قبل أن يتعرف على جماعة الإخوان المسلمين.. واتهمه المصريون المطبوعون بالطابع الأمريكي في وزارة التربية بالجمود والرجعية، وكتب عن أمريكا كتابًا لم يشهد النور، عنوانه “أمريكا التي رأيت” عرض فيه ما رآه هناك من زيف الديمقراطية المزعومة التي تفرق بين الأجناس والألوان وقارن بينها وبين نظام الإسلام

ثم حرّر مجلة “الفكر الجديد” بعد أن عرف جماعة الإخوان المسلمين، وتحدى فيها الرأسمالية الجائرة واستغلال أصحاب الألقاب والنفوذ لأقوات الشعب وأرزاقه، بدأت تلتقي عند الشهيد “سيد قطب” الفكرة والحركة في تعانقٍ منسقٍ هدفه الوصول بالإسلام إلى الحكم الرشيد في الوطن الإسلامي كله.

وفي عام 1952م انتُخب الأستاذ “سيد قطب” عضوًا في مكتب الإرشاد للجماعة، وعُيِّن رئيسًا لقسم نشر الدعوة في المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين.

وفي شهر يوليو سنة 1954م عُيِّن رئيسًا لتحرير جريدة “الإخوان المسلمون”، ولكن عبد الناصر أوقف الجريدة بعد شهرٍ واحد وخمسة أيام؛ حين بدأت تعارض المعاهدة الإنجليزية المصرية التي عقدها عبد الناصر وضباط الحركة مع الإنجليز!.

وساقه عبد الناصر مع الإخوان المسلمين في يناير 1954م إلى حجرات التعذيب في سجن القلعة والسجن الحربي وأبى زعبل وليمان طره، ثم أُخلي سبيله في مارس سنة 1954م؛ حيث مرض مرضًا صدريًا، وأصابته أزمة قلبية كادت تطيح به في يوليو سنة 1955م بعد دخوله السجن مرةً ثانيةً.

وفي 13 يوليو سنة 1955م حكمت عليه المحكمة بالسجن لمدة 15 عامًا مع الأشغال الشاقة، وكانت فترة سجنه نحوًا من عشر سنوات دامت حتى 1964م بعد تدخل الرئيس العراقي عبد السلام عارف للإفراج عنه.

ومضت كل هذه السنوات غنيةً بالإنتاج للدعوة الإسلامية، وكان أول ما كتبه فيها كتابه “في ظلال القرآن” الذي سيشار إليه في الحديث عن مؤلفاته إن شاء الله.

سيد والضباط الأحرار:

كان سيد على علاقة بالضباط الأحرار، كان رافضا للظلم والاستعباد الذي كانت تمارسه الأسرة الحاكمة، فكان يتمنى أن تخلص الثورة الشعب من هذا العناء بتطبيق شريعة الرحمن، علم الطاغية عبد الناصر أهمية وجود شخص عبقري ومفكر فذ مثل سيد فعرض عليه وزارة المعارف فرفض سيد هذا العرض، سرعان ما اكتشف حقيقتهم فتركهم وكان يعلم جيدا عواقب هذا الفعل لكن الحر لا يخشى بطش الطاغية.

اعتقاله :

اعتقال في عام 1954م بسبب أحداث المنشية حيث اتهم الإخوان بمحاولة اغتيال الهالك جمال عبد الناصر، ضمن ألف شخص تم اعتقالهم وحكم عليه بالسجن 15 سنة ذاق خلالها ألوانًا من التعذيب والتنكيل الشديدين، ومع ذلك أخرج كتيب “هذا الدين” و”المستقبل لهذا الدين”، وأروع التفاسير “في ظلال القرآن” في سجن طرة.
وأفرج عنه بعفو صحي في مايو 1964م وكان من كلماته وقتذاك:

“إن إقامة النظام الإسلامي تستدعي جهودًا طويلة في التربية والإعداد، وأنها لا تجيء عن طريق إحداث انقلاب”

لكن النظام الفاشي لم يتركه طويل حيث تم اعتقاله مرة أخرى 9-8-1965م، وقُدم مع كثير من الإخوان للمحاكمة، وفي أثناء المحاكمة قال القاضي لسيد قطب: إنك متهمٌ بمحاولة قتل عبد الناصر، فرد قائلًا:

“إن قتل عبد الناصر هدفٌ تافه، إننا نهدف لبناء أمة لا يخرج فيها مثل عبد الناصر!

وحكم عليه وعلى 7 آخرين بالإعدام، وبالرغم من منع القانون تنفيذ الإعدام على من بلغ عمره 60عام إلا أن المجرم عبد الناصر أصر على تنفيد الحكم وقال لهم إلا هذا، ونفذ فيه الحكم في فجر الاثنين 13 جمادى الأولى 1386هـ الموافق 29 أغسطس 1966م

قصة إعدام الشهيد:

ومن أكثر المواقف روعة في حياته هي لحظة إعدامه كم كان شامخ بطل أذل أعدائه حتى و هو على المشنقة،

تقول الداعية زينب الغزالي׃

“طلب الطغاة حميدة قطب ليلة تنفيذ الحكم بالإعدام. فقالت׃ استدعاني حمزة البسيوني إلى مكتبه وأراني حكم الإعدام والتصديق عليه ثم قال لي إن الحكومة مستعدة أن تخفف هذا الحكم إذا كان شقيقي يجيبهم إلى ما يطلبونه ثم أردف قائلا إن شقيقك خسارة لمصر كلها وليس لك وحدك… إننا نريد أن ننقذه من الإعدام بأي شكل وبأي وسيلة .

إن بضع كلمات يقولها ستخلصه من حكم الإعدام ولا أحد يستطيع أن يؤثّر عليه إلا أنت . أنت وحدك مكلفة بأن تقولي له هذا … نريد أن يقول إن هذه الحركة كانت على صلة بجهة ما.. وبعد ذلك تنتهي القضية بالنسبة لك. أما هو فسيفرج عنه بعفو صحي. وذهبت إلى سيد شقيقي وسلمت عليه وبلغته ما يريدون منه فنظر إلي ليرى أثر ذلك على وجهي وكأنه يقول׃ أأنت التي تطلبين أم هم؟ واستطعت أن أفهمه بالإشارة أنهم هم الذين يقولون ذلك، وهنا نظر إلي وقال׃

والله لو كان هذا الكلام صحيحا لقلته ولما استطاعت قوة على وجه الأرض أن تمنعني من قوله، ولكنه لم يحدث وأنا لا أقول كذبا أبدا”

ثم سأل׃ وهل ترضين ذلك؟ قلت: لا . فقال:

“إنهم لا يستطيعون لأنفسهم ضررا ولا نفعا … إن الأعمار بيد الله وهم لا يستطيعون التحكم في حياتي ولا يستطيعون إطالة الأعمار ولا تقصيرها.. كل ذلك بيد الله والله من ورائهم محيط”

كما يروي  الشيخ عبد الحميد كشك: أن الشهيد سيد رأى النبي في ليلة تنفيذ الحكم في المنام وبشره بالجنة.

https://www.youtube.com/watch?v=As_Io4soj7c
وفي الصباح فتح السجان الزنزانة ليخبره بحركة تبديل في العنابر لكن سيد كان يعلم انه حان وقت تنفيذ الحكم.
وحتى في أصعب لحظات حياته كان رجل يعلم أمة، يلقن الظالمين الدروس، فعند تنفيذ الإعدام وبعد أن وضع على كرسي المشنقة عرضوا على سيد قطب أن يعتذر عن دعوته لتطبيق الشريعة ويتم إصدار عفو عنه فقال: لن أعتذر عن العمل مع الله

ثم قال:

“إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفا واحدا يقر به حكم طاغية”

فقالوا له إن لم تعتذر فاطلب الرحمة من الرئيس، فقال:

“لماذا أسترحم؟ إن كنت محكوما بحق فأنا أرتضي حكم الحق، وإن كنت محكوما بباطل، فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل”

ويروى أيضا أن الذي قام بعملية تلقينه الشهادتين قبل الإعدام قال له: تشهد فقال له سيد:

“حتى أنت جئت تكمل المسرحية نحن يا أخي نعدم لأجل لا إله إلا الله، وأنت تأكل الخبز بلا إله إلا الله”

ووضع هو حبل المشنقة في عنقه بكل كبرياء واستعلاء بالحق.

يظن السطحيون والخائفون من المواجهة أن دعوة سيد فشلت وأن نهايته كانت مأساوية، لكن أبسط دليل على نجاح دعوته وتأثر الأجيال المتتالية بفكره اهتمامك بقراءة هذا المقال لتعرف قصة حياة العملاق وصدور العديد من المقالات الأخرى والأفلام الوثائقية عنه، وحرص الشباب على قراءة كتبه برغم منعها وخطروة اقتنائها،كما يعتبر سيد الأب الروحي للمجاهدين، وأما نهايته فهي من أعظم النهايات فهل هناك خير من الشهادة في سبيل الله بعد أن ترك عظيم الأثر في ثغور الدين.

قلنا إنه ظهر لنا من خصائص شخصية طفل القرية إباءه للظلم وكرهه للطغاة، وحين عنَّ للظالم أن يقهر كبار الإخوان في عزتهم وإبائهم عرض عليهم أن يكتبوا تأييدًا له إذا أرادوا الخروج من محنتهم‍!. وضُلل في هذا التيه كثير، وصمد له كثير، ومن بينهم شهيدنا الغالي الذي ردّ على الضابط السجّان بقولته المشهورة: “إن السبابة التي أشهد بها في كل صلاة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله لا يمكن أن تكتب سطرًا فيه ذلّ أو عبارة فيها استجداء، فإن كنت مسجونًا بحق فأنا أرضى بالحق، وإن كنت مسجونًا بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل”…!  وربما يعزينا في هذا المقام أن نسمع بعضًا من أحاديث الشهيد لأسرته وذويه في أثناء سجنه، حين يقول في إحدى رسائله:”عندما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة قصيرةً ضئيلةً، تبدأ من حيث بدأنا نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود!! أما عندما نعيش لغيرنا، أي عندما نعيش لفكرة فإن الحياة تبدو طويلةً عميقةً، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض. إننا نربح أضعاف عمرنا الفردي في هذه الحالة، نربحها حقيقةً لا وهمًا، فتصور الحياة بعدد السنين ولكن بعداد المشاعر، وما يسميه (الواقعيون) في هذه الحالة (وهمًا)! وهو في (الواقع) (حقيقة) أصحّ من كل حقائقهم؛ لأن الحياة ليست شيئًا آخر غير الشعور الإنساني للحياة، جرِّد أي إنسان من الشعور بحياته، تجرده من الحياة ذاتها في معناها الحقيقي! ومتى أحسّ الإنسان شعورًا مضاعفًا بحياته فقد عاش حياة مضاعفة فعلاً..

وتقرأ له سلوكه كداعية مع الناس في شرهم وخيرهم، فترى من دقة فهمه ورقة حسِّه ما جعله أهلاً لإيصال الحق للنفوس الحيرى: “عندما نلمس الجانب الطيب في نفوس الناس، نجد أن هناك خيرًا كثيرًا قد  تراه العيون أول وهلة…. لو جربت ذلك مع الكثير، حتى الذين يبدو في أول الأمر أنهم شريرون أو فقراء الشعور.. شيء من العطف على أخطائهم وحماقاتهم، شيء من الوُد الحقيقي لهم، شيء من العناية – غير المتصنعة – باهتمامهم وهمومهم ثم ينكشف لك النبع الخير في نفوسهم، حين يمنحوك حبهم ومودتهم وثقتهم في مقابل القليل الذي أعطيتهم إياه في صدق وصفاء وإخلاص، إن الشر ليس عميقًا في النفس الإنسانية إلى الحد الذي تتصوره أحيانًا أنه في تلك القشرة الصلبة من الثمرة الحلوة للحياة التي تتكشف لمن يستطيع أن يشعر الناس بالأمن في جانبه، بالثقة في مودته، بالعطف الحقيقي على كفاحهم وآلامهم، وعلى أخطائهم وعلى حماقاتهم كذلك.. وشيء من سعة الصدر في أول الأمر كفيل بتحقيق ذلك كله، أقرب مما يتوقع الكثيرون، لقد جربت ذلك، جربته بنفسي فلست أطلقها مجرد كلمات مجنحة وليدة أحلام وأوهام…!”. ويؤكد لك روح الداعية فيه، وسمت تواضع المؤمن الذليل لأخيه العزيز على الطاغية والطاغوت ما تسمعه منه حين يقول:- “حين نعتزل الناس لأننا نحس أنَّا أطهر منهم روحًا، أو أطيب منهم قلبًا، أو أرحب منهم نفسًا، أو أذكى منهم عقلاً لا نكون قد صنعنا شيئًا كبيرًا… لقد اخترنا لأنفسنا أيسر السبل وأقلها مئونةً!!

إن العظمة الحقيقة: أن نخالط هؤلاء الناس مشبعين بروح السماحة والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم، وروح الرغبة الحقيقة في تطهيرهم وتثقيفهم ورفعهم إلى مستوانا بقدر ما نستطيع.

إنه ليس معنى هذا أن نتخلى عن آفاقنا العليا ومثلنا السامية أو أن نتملق هؤلاء الناس ونثني على رذائلهم، أو نشعرهم أننا أعلى منهم أفقًا، إن التوفيق بين هذه المتناقضات وسعة الصدر لما يتطلبه هذا التوفيق من جهاد هو العظمة الحقيقة”.

وحين تشهد نور كلماته في مؤلفاته المشرقة بالحق والجمال تعرف من خلالها كيف يسكب فيها مهجته ودمه ونبض قلبه وروحه، ومن أقواله: “إنه ليست كل كلمة تبلغ إلى قلوب الآخرين فتحركها وتجمعها وتدفعها… إنها الكلمات التي تقطر دمًا، لأنها تقتات قلب إنسان حي
كل كلمة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان، وإن الكلمات التي ولدت في الأفواه وقذفت بها الألسن، ولم تصل إلى ذلك النبع الإلهي الحي فلقد ولدت ميتةً ولم تدفع بالبشرية شبرًا واحدًا إلى الأمام… إن أحدًا لن يتبناها لأنها ولدت ميتةً، والناس لا يتبنون الأموات! إن أصحاب الكلمات والأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئًا كثيرًا.. ولكن بشرط واحد أن يموتوا هم لتعيش أفكارهم، أن يُطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم، أن يقولوا ما يعتقدون أنه حق، ويقدموا دماءهم فداءً لكلمة الحق.
“إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثةً هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها أو فديناها بالدماء انتفضت حيةً وعاشت بين الأحياء..

ولعله من الإنصاف أن نقدم طرفًا مما يعرفه له بعض أصدقائه الذين ألفوا كتبًا عنه، وهو الأستاذ يوسف العظم فيقول:” وكان موثوقًا، التف حوله إخوانه بين جدران السجن أو في جنبات المجتمع، إنه حقًا قطب الجماعة والجبل الذي يُلتف حوله ويفتدى به لو استطيع بالغالي والنفيس، وكان مخلصًا، داس بكبريائه على مناصب الطغاة عن قناعة، ورفض كل لين أو هون يقوده إلى نعيم الدنيا ويحرمه من نعيم الآخرة.. أبى المساومة على كرامة الدعوة والداعية.. وقد أغرته السلطة بمنصب وزير المعارف في أعقاب قيام الثورة فأبى.. وعرضوا عليه منصب السكرتير العام لهيئة التحرير المصرية أول بذرة للحزب الواحد في مصر الثورة.. ولكنه عدّ ذلك هراءً ولغو حديث؛ طالما مطالب الثورة تنحصر يوم ذاك في هتاف وصياح ومواكب تطبيل وتزمير، حاولوا خداعه فعرضوا عليه وهو سجين أن يكون مرشدًا عامًا للإخوان المسلمين مكان المرشد الصابر حسن الهضيبي، فسخر من تجار المساومة وأكد لهم التفاف الإخوان حول مرشدهم، ثم قال للطغاة ناصحًا: “أكون غاشًا حينما أقول: إن الإخوان يجتمعون على غير مرشدهم حسن الهضيبي”.
محاكمة الشهيد:
وربما أضيف جديدًا إلى القارئ عن ظروف محاكمة الشهيد سيد قطب بما كتبه عنه الأستاذ يوسف العظم في كتابه الذي دوَّنه عنه: “أما المحكمة التي قُدم إليها الشهيد سيد قطب وإخوانه فليست جديدةً على كل حال.. لقد عرفتها مصر الثورة من قبل، كان ذلك عام 1954م حين قدمت العالم الشهيد عبد القادر عودة، والمجاهد محمد فرغلي، وفريقًا من طلائع الفداء جزءًا من مسرحية ساخرة وتمثيلية دامية.. انتهت بهم إلى حبال المشانق، في الوقت الذي أعيد فيه ثلاثة عشر بحارًا يهوديًا من بحارة السفينة اليهودية (بات جاليم) إلى إسرائيل وألسنتهم تلهج بالشكر والثناء والدعاء للثورة التي أحسنت معاملتهم وأكرمت مثواهم في جناح مفروش مؤثث بكل وسائل الراحة في السجن الحربي العتيد!! وزيادةً في تكريمهم.. وتقديم البرهان والدليل على حسن نوايا الثوار والأحرار كان الجلادون يُمتعون (اليهود الضيوف) بجَلد أبناء الشعب المصري تحت سمعهم وبصرهم.. والبحارة اليهود يستمتعون بالدجاج المحمر طعامًا، والخمر شرابًا، في حمى الثورة حامية الشعب.. صانعة الحرية!

قد يبدو هذا خيالاً ولكنها الحقيقة التي هي أغرب من الخيال، وقد يبدو هذا مبالغةً، ولكنه الواقع الذي يفوق المبالغة، نشرت معظمه صحف الثورة يومذاك في معرض الحديث عما سمته جرائم الإخوان المسلمين.. وحسن معاملة الثورة لأسرى الدولة اليهودية!!

أما هذه المرة فقد أعلنت “مصر الثورة” بمناسبة زيارة المشير عبد الحكيم عامر إلى فرنسا، وفي الوقت الذي كان فيه الشهيد سيد قطب يُقدم للموت، أن قضية التجسس لصالح إسرائيل، والتي اتهم بها المكتب التجاري الفرنسي كأنها لم تكن، وأُخلي سبيل المتهمين عربونًا جديدًا من الثورة والثوار على أن مطاردة الأحرار أولى من مطاردة الجواسيس، وأن قتل الأبرياء من قادة الفكر ورجال العقيدة هو الهدف الأول والأخير من أهداف ثورة التحرير..والطلائع الثورية!!..

ونعود إلى قاعة المحكمة لنلتقي بأعجب حلف يجمع بين القاضي والدفاع والنيابة العامة والجمهور حيث يتمارى الجميع في إلصاق ما يرون للسلطان من تهم، وهم يسخرون من إنسان سلبوه كل مقومات الدفاع عن النفس وحرموه من أبسط مقومات الحرية!!
إن القاضي في كل الشرائع والقوانين الكونية يسمع رأي النائب العام الذي يحاول إدانة المتهم، ثم رأي الدفاع الذي يبذل جهده لتبرئة موكله، ثم رأي المتهم إن رغب في ذلك وكان لديه ما يقوله.
أما القاضي في محاكم الثورة العتيدة المتعافية فمهامه كثيرة، ليس بينها الإصغاء بتعقل، والاستيعاب بإنصاف وتقصي الحقيقة بتجرد – ليصدر الحكم بعد ذلك بنزاهة لا يشوبها سوى عجز الإنسان عن إدراك الحقيقة وبلوغ الحق المطلق.

إن القاضي في محاكم الثورة التي أُلَِّفت قصتها ووضع حوارها وتم إخراجها على يد رجال المخابرات، همه تنفيذ المؤامرة وسوْق الأبرياء إلى حبال المشانق وزنازين الطغاة.. وإذا كان القاضي يقوم بدور الممثل الأول.. فالجمهور يقوم بدور “الكومبارس” ذلك أن كل خفقة في صدره ونبضة من دمه وخلجة في وجهه وكلمة ينطق بها.. كلها تعلن تحيزه وتؤكد أن الحكم صادر في مخيلته، واضح في تصوره قبل بدء المحاكمة، وكل ما يجري على ملأ الجمهور تمثيل في استوديوهات دوائر المخابرات التي يسمونها محكمة الثورة!!
ولكي تقرب الصورة للقارئ.. وينقل إلى أجواء الإنصاف الثوري والعدالة الاشتراكية، لا بد من سرد وقائع ونقل ألفاظ وعبارات بعينها صدرت في قاعة المحكمة التي حكمت على الداعية الشهيد وصحبه الأبرار بالموت.

لا يُسمح للجمهور بالدخول إلى قاعة المحكمة إلا ببطاقات أُعدت من قبل، ووزعت قبل بدء المحاكمة بأسبوع على الأقل.. تمامًا كتلك التي توزعها مؤسسات تلفزيونية معينة تختار بها نوعيةً معينةً من الناس لتحضر برنامجًا من برامج الجوائز والمسابقات!!
وإذا علمنا أن دوائر المخابرات الثورية هي التي تقوم بطبع البطاقات وتوزيعها، أدركنا أي جمهور هذا الذي يحتل المقاعد في قاعة المحكمة ويطلق النِكات بين الحين والحين، لينال من عِرض متهم، أو يهزأ بكرامة سجين، بالإضافة إلى الضحك الصاخب المشترك الذي يطلقه الجمهور الكريم تجاوبًا مع ما يطلقه القاضي النزيه والحكم العادل من نِكات بذيئة أو لغو حديث!!
والنائب العام.. أو المدعي العام..إنه لا يسوق الأدلة على الإدانة، ولكنه يسوق عبارات السخرية والألقاب التي تبدأ بـ(القطب الأغر) و(القطب اللامع)، وتنتهي (بزعيم الإجرام وعصابة الإرهاب الآثمة).

أما الأدلة والحجج فلا داعي لها؛ ألا يكفي أن أبواق الإعلام المسعورة خارج القاعة وقبل يوم المحاكمة قد مهّدت الأجواء والأصداء، وأصدرت حكمها مسبقًا على المتهمين، وأعلنت خيانتهم، وطالبت أن يًُحكم على البعض بالموت والبعض بالسجن المؤبد… ومن الغريب العجيب أن تأتي مطالبة النائب العام بنسخة مما تطالب به الصحف وما ترجوه الإذاعة وما يرغب فيه التليفزيون، وأن تجيء أحكام القاضي النزيه مطابقةً منسجمةً مع تلك المطالب وتلك الرغبات!!
ونقف بين يدي القاضي لنسمع العجب العجاب:
يسأل المتهم، فإذا ما نهض البريء المعذب للإجابة، انطلق القاضي قائلاً: “ما فيش داعي.. خلاص ما أنا عارف إنت حاتقول إيه أنا أقول الحكاية..” ويحاول المتهم أن يسرد جزءًا من الجواب على السؤال الموجَّه له.. فيقاطعه القاضي العادل بقوله.. “أيوه حتقول لنا معالم في الطريق.. كفاية بأه… اجلس مكانك”!
ومحامو الدفاع في قضية الأبرياء… أمرهم لا يقل عجبًا وموقفهم لا يقل غرابةً، إن مهمتهم في المحكمة تنحصر في كيْل المديح لعدالة القاضي بعد دعاء خاشع أن يحفظ الله الرئيس المفدّى من كل سوء.. ثم لمحة عن تاريخ الرئيس التي سخرته العناية الإلهية لرفع مستوى الشعب المصري، وإنقاذه من الذل والمهانة، ويختم الدفاع خطبته بفقرتين مهمتين.. الأولى اتهام السجين الذي يدافع عنه المحامي الأمين بالجنون أو المرض النفسي أو الكذب والحقد والغرور، والثانية يطلب بها رحمة المحكمة.

لقد منعت السلطات الظالمة يومذاك عددًا من المحامين العرب الذين تطوعوا من السودان والمغرب والأردن وغيرها للدفاع عن المتهمين.. منعتهم من دخول مصر والمرافعة أمام محكمة الثورة.. وفي الوقت الذي تعلن فيه قرارات مؤتمر المحامين العرب أنه لا يحق لأى محام عربي أن يترافع أمام محكمة عربية، ولم يجد مثل هذا القرار الجائر موقفًا منصفًا أو اعتراضًا كريمًا من محامىّ التقدمية والثورية في كل أجزاء الوطن العربي المنكوب!!

ولما لاحظ القائمون على أمر المحاكمة خارج المحكمة أن نشر وقائع الجلسة ولو مزورةً مشوهةً يُطلع الناس على جانب من الحقيقة ويبين لهم بعض الحق.. أمروا بمنع نشر وقائع الجلسات على الصحف.. وقد نسوا أنها جلسات علنية كما أعلنوا… واكتفوا بنشر خبر لا يتعدى أربعة أسطر يشير إلى أن محاكمة المتهمين ما زالت جارية… وأن الأحكام ستصدر قريبًا.

ولو قُدِّر للجمهور المُبعد عن قاعة المحكمة أن ينفذ إليها، وأن يحتل مقاعدها لوجد كثيرًا من مواقف الجرأة التي يعلنها الشباب المؤمنون والسجناء الأبرياء بأنهم أصحاب عقيدة.. وأنهم يعملون لخلاص ديارهم من كل طاغوت، وإنقاذها من كل تبعية!!..

ولقد وقف الداعية الشهيد سيد قطب يسخر من المحكمة التي أمر قاضيها وطلب إليه أن يذكر الحقيقة كما يريدها لا كما وقعت، فقال وقد كشف عن صدره وظهره الممزق بالسياط وأنياب الكلاب البوليسية الثورية: أتريدون الحقيقة… هذه هي الحقيقة!!!

فضجت القاعة بالاشمئزاز وأشاح الجمهور بوجهه؛ ألمًا وازدراءً لما يقع في سجون مصر الثورة.. رغم أن معظم جمهور القاعة من زبانية الثورة وزبائن المخابرات، كان الناس يتتبعون بلهفة ما يجري في محكمة الثورة.. وكانوا على علم من مجريات الحوادث وسرد الوقائع ولهجة القاضي والنيابة والدفاع.. بأن الموت ينتظر فريقًا من الأبرياء، الذين نذروا أنفسهم في سبيل الله، وإنقاذ مصر من هلاك محقق”.

وينتهي حديث الصديق والكاتب يوسف العظم، ولعله من نافلة القول أن نقرر أن القاضي أو الجلاد قد أصدر حكمه بعد هذه المحكمة الهزلية بالإعدام.

صاحب الظلال.. البراءة من كل الأكاذيب

1- في عدد 16 جمادى الأولى 1386هـ، من مجلة (العلم) المغربية، قال المفكر الإسلامي الكبير علال الفاسي زعيم حزب الاستقلال المراكشي في استشهاد سيد قطب الكاتب والمفكر الإسلامي: (وقد اتهم سيد قطب وصحبه بالتآمر على الدولة وعلى قتل رئيسها، ونحن لا نعلم عن سيد قطب إلا الدعوة بالحسنى والصدق في القول، وعدم التستر في شيء من أعماله، فإن كان ثمة تآمر من معارضي النظام المصري فلا شك في أن سيد قطب بريء منه، وأن الفئة التي يتزعمها لا تدين بغير النضال السلمي والدعوة بالحكمة والكتاب).

2- وتقول: هل وجد سيد قطب- المريض والمعروف أنه خرج من السجن سنة 1964 في عفو صحي، واعتقل في يونيو 1965- فرصة الوقت لتدبير انقلاب التخطيط لتدمير وترويع؟!.

إن تدبير انقلاب في مصر، احتاج إلى إعداد من أوائل الأربعينيات حتى سنة 1952 وسط القوات المسلحة، كما ذكر الذين تزعموا حركة 23 يوليو 1952.

3- وإذا كان هناك من يحاول الخروج من كلمات سيد قطب بمفاهيم دخيلة تؤدي إلى اعوجاج في الخط، أو انحراف في السير، فإنه يجب أن يذكر كلمته الخالدة: (إننا دعاة ولسنا قضاة.. دعاة إلى الهدى ولسنا قضاة على من لا نعرف، كيف سيختم الله حياتهم هنا أو هناك، إن الذين يحسنون العمل يجب ألا يركنوا إلى ما يفعلون فالعبرة بالخواتيم).

4- خرج من محكمة الدِجوى بعد أن أصدروا حكمهم عليه، وسأله أحدهم في الخارج عن الحكم، فأجابه، هاشًا، باشًا: إنها الشهادة..

5- وهذا طرف من أسرار العلاقة بين سيد قطب وعبد الناصر، والذي كان حليفًا قويًّا، ومُقَرَّبًا للثورة في بدايتها، بل أحد مفكريها والمروجين لها.

حيث كانت العلاقة بين سيد قطب وضباط 23 يوليو، علاقةً حميمةً قبل اندلاع الثورة وبعدها، بل كان يُعَدُّ الْمُنَظِّرَ الفكري للثورة! فقد كانوا يتشاورون مع سيد قطب حول ترتيبات الثورة وأسس نجاحها، والذي يؤكّد ذلك أنه تم تعيينه من قِبَل قيادة الثورة مستشارًا لها في الأمور الداخلية، وتغيير مناهج التعليم.

6- وقد حاول سيد قطب التوفيق بين عبد الناصر والإخوان عندما اشتد الخلاف بينهما، ولكنه انحاز في نهاية الأمر إلى الإخوان، رافِضًا جميع المناصب التي عرضها عليه عبد الناصر، مثل وزير المعارف، ومدير سلطة الإذاعة.

وسرعان ما توجس سيد من تصرفات قيادات الثورة، حتى إنه صارح بعض خلصائه قائلاً: لا أجد في تطور الثورة ما يريح، فهؤلاء الأمريكان يحاولون احتواءها بدلاً من الإنجليز!.

ويروى الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار- الأديب الحجازي المعروف والصديق الأثير لسيد قطب- عن صلة سيد برجال الثورة بعد قيامها، فيقول: بَلَغَ من احترام الثورة لسيد قطب، وعرفانها بجميله وفضله، أن كل أعضاء مجلس قيادة الثورة كانوا مُلْتَفِّين حوله، ويرجعون إليه في كثير من الأمور، حتى إنه كان المدني الوحيد الذي يحضر جلسات مجلس قيادة الثورة أحيانًا، وكانوا يترَدَّدُون على منزله في حلوان بل إنه أول من طرح كلمة “ثورة” بدلاً من انقلاب عسكري لحركة 23 يوليو.

ويتابع عطار كلامه، كما ينقله لنا الدكتور صلاح الخالدي في كتابه “سيد قطب: الأديب الناقد “- دار القلم- دمشق:

“قرر مجلس قيادة الثورة أن يسند إلى سيد قطب منصب وزير المعارف- ونشرت مجلة (آخر ساعة) القرار- ولكن سيد قطب اعتذر، ورجوه أن يتولى منصب المدير العام للإذاعة، فاعتذر!

7- وأخيرًا وافَقَ على أن يكون السكرتير العام لهيئة التحرير.. (وهي وظيفة تعني أنه تقريبًا الرجل الثاني في الدولة) ولَبِثَ سيد قطب فيها شهرًا واحدًا، فسرعان ما بدأ الخلاف بين سيد قطب وعبد الناصر وزملائه، مما اضطره إلى الاستقالة من هيئة التحرير.

وهذا يكشف جانبًا مميزًا في سيد قطب، باعتباره أديبًا مرموقًا رقيق المشاعر، فقد كانت طبيعته المعروفة عنه الصدق مع النفس، والجرأة في قول الحق وهذا ما أزعج رجال الثورة، الذين لا يحبون هذا المسلك الأخلاقي في إدارة الأمور! وعلى رأسهم عبد الناصر.

وقد ذكر هذه الرؤية الكاتب الإسلامي محمد سيد بركة، صاحب كتاب “سيد قطب أوراق منسية”.

8- لَكِنَّ مما يثير شجونًا في النفس ذلك السؤال الذي طرحه آنذاك المفكرون والكتاب: كيف هان سيد على عبد الناصر، وهو مُتَّهَمٌ في قضية هو منها بريء، وهي تكوين تنظيم مسلح لاغتيال عبد الناصر؟! والقضية من أولها إلى آخرها من صنع المخابرات العسكرية!!، ومرة أخرى، كيف هان لعبد الناصر أن يُعْدِمَ مفكرًا كتب عنه أستاذه الدكتور مهدي علام، في تقديمه لرسالة (مهمة الشاعر في الحياة) التي ألقاها سيد قطب كمحاضرة في دار العلوم، فقال عنه: (لو لم يكن لي تلميذ سواه لكفاني ذلك سرورًا وقناعةً، ويعجبني فيه جرأته الحازمة التي لم تَسْفَهْ فتصبح تهورًا، ولم تَذِلّ فتغدو جبنًا، وتعجبني فيه عصبيته البصيرة، وإنني أُعِدُّ سيد قطب مفخرةً من مفاخر دار العلوم)!.

فكان أول اعتقال لسيد قطب عام 1954م لمدة شهرين مع قيادات الإخوان المسلمين، ثم أعيد اعتقاله مرة أخرى بعد (حادث مسرحية المنشية)، وصدر ضده حُكْمٌ بالسجن 15 سنة، ثم تَوَسَّطَ له الرئيس العراقي عبد السلام عارف، فأُفْرِجَ عنه بعفوٍ رئاسي.

9- وفي عام 1965م أعاد عبد الناصر المواجهة مرة أخرى مع سيد قطب، فأعلن من موسكو- وكان في زيارة لها- عن اكتشاف مؤامرة (!) دبرها الإخوان المسلمين بقيادة سيد قطب لاغتياله، وقلب نظام الحكم.

فاعتقل سيدٌ مرة ثالثة، وذاق أصنافًا وألوانًا من العذاب على يد زبانية التعذيب في العهد الناصري!.

وألقى عبد الناصر ورقته الأخيرة إلى قطب، لعله يلين إلى سلطان الجالس على الكرسي، فأرسل إليه في ليلة تنفيذ الحكم، عارضًا عليه الاعتذار، أو أن يكتب سطرًا واحدًا يطلب فيه الرحمة من جمال عبد الناصر.. ولكن ما كان لمثل سيد في جرأته وإيمانه بما يعتقد، أن يقبل بمثل هذا العرض، فرفض العرض الأخير في حياته كلها، قائلاً كلماته الخالدة: “إنّ إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة، يَأْبَى أن يكتب كلمة يتقرب بها لحاكم طاغية، فإنْ كنتُ مسجونًا بالحق فأنا أرتضي حكم الحق، وإن كنتُ مسجونًا بالباطل، فأنا أكبرُ من أن أسترحم الباطل”.

10- وفى يوم 28 من أغسطس 1966 تلقى عبد الناصر رسالةً من الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز، يتوسط فيها للعفو عن سيد قطب الذي قضت المحكمة العسكرية بإعدامه، وأوصل سامي شرف البرقية لجمال عبد الناصر في ذلك المساء، فقال جمال عبد الناصر لسامي شرف: (أعدموه في الفجر… بكرة، وأعرض عليّ الرسالة بعد الإعدام)!!، ثم أرسل عبد الناصر برقية اعتذار للملك، مُتَعَلِّلاً بأن رسالة الملك وصلته بعد تنفيذ الحكم!!.

11- واليوم تأتي المحاولات لإلقاء نفس التهم القديمة البالية، التي عرف العالم حقيقتها، لتتفوه بها أقلام جانية ظالمة، تٌساق دون أن تدري لحتف الحق، وهو محال: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)﴾ (الإسراء)، فأعادوا سيناريو التزييف القديم، بما يسمي (القطبيون) متناسين أن الحقائق أصبحت في عصرنا اليوم معلومة للقاصي والداني، فما زادوا أنفسهم إلا خيبة وجهالة، بعد أن أصبحوا مثار فكاهات في زمن قلت فيه الابتسامات، وإني لأعجب من كتاب أعماهم الهوى، فراحوا ينشرون الأكاذيب والضلالات، وهم ينشرونها لغير حسابهم، متوهمين بها السبق، فكان السبق في الضحك من فكاهاتهم، فما نالوا إلا أنهم سقطوا من أعين الشرفاء، فبعد نصف قرن قد نشرت فيه آلاف الوثائق والنشرات والمذكرات من المعنيين بالأمور، عن توقيعات على بياض في أتون التعذيب، لكلام هزيل من صناعة نظام استبدادي فاسد، والتي هي في الحقيقة إدانة لهم، واقرءوا إن شئتم مذكرات السادات ومحمد نجيب والبغدادي وصلاح نصر وكمال حسين وحسين حمودة وسامي شرف وصلاح شادي والتلمساني وعشماوي ومصطفي أمين وأحمد أبو الفتح وسامي جوهر وأنيس منصور والحمامصي وشوكت التوني وعلى جريشة ووو، فإن كنتم قرأتموها فتلك مصيبة، وإن لم تكونوا قد قرأتموها فالمصيبة أعظم.

وإني لأبكي اليوم حال إعلامنا الذي تحول إلى وكالة إعلان مدفوعة الأجر، وأرثي أيضًا تحول البعض إلى مهرجين في سيرك الضلالات، فعلى العقلاء أن يبصروهم، وعليهم أن يعلموا الحقائق، فمصرنا الحبيبة في حاجة ماسة، خاصة في يومنا هذا، لخطوات الجادين وليس المهرجين.

12- لقد كان لي الشرف في أن أبحر في محيطات الشهيد فكرًا وإحساسًا وحركةً، حين قمت بإعداد كتاب (الغزوات في ظلال القرآن) وفيه (غزوات مع اليهود)، وكأنها الحاضر اليوم، بما ربطه الشهيد بواقع الأمة اليوم، وقضية فلسطين، أما حين قمت بتحقيق كتابه النادر: (أمريكا التي رأيت)، وهو رسالة اليوم الواقعية، فأدركت لماذا سيد قطب هدفًا لأمريكا وإسرائيل، كتب سيد قطب في (دراسات إسلامية) ص 181- 185: (إننا ننسى أن العالم الأوروبي والعالم الأمريكي يقفان صفًا واحدًا بإزاء العالم الإسلامي، والروح الصليبية القديمة هي هي لا تزال، إننا ننسى هذا، لأن فينا مغفلين كثيرين ومغرضين كثيرين يضللوننا، وينشرون دعاية مغرضة عن رغبة أمريكا في إنصاف الشعوب المستعبدة ومساعدة الشعوب المتأخرة، مع أننا ذقنا الويل من أمريكا في فلسطين، إن جراحات العالم الإسلامي تنبض بالدم في كل مكان، وأمريكا واقفة تتفرج، ومع هذا توجد صحف ويوجد ناس: يتحدثون عن تمثال الحرية في ميناء نيويورك…).

وأخيرًا: لهذه الحقائق أعدم سيد قطب، وسيصبح سيد قطب تهمة جاهزة، اسمها (القطبيون)، من صنع أمريكا وإسرائيل، فلا نامت أعين البلهاء.

مؤلفات الشهيد:
وربما استوقفتنا غزارة إنتاج الشهيد سيد قطب في جوانب ملكاته المختلفة كأديب وقاص وشاعر ومؤلف إسلامي وداعية..
ونذكر من مؤلفاته القصصية:-
طفل من القرية
أشواك
المدينة المسحورة
قصص الأنبياء
الأطياف الأربعة
ونذكر من دواوين شعره:-
الشاطئ المجهول
حلم الفجر
قافلة الرقيق

ونراه ناقدًا منصفًا كذلك في كتابه “نقد مستقبل الثقافة في مصر”، الذي صدر في ثمانين صفحة، عرض فيه برأيه في كتاب طه حسين الذي أثار ضجةً حينذاك بدعوته إلى الأخذ من حضارة الغرب “حلوها ومرها خيرها وشرها”، وأبرز الشهيد سيد قطب في نقده لهذا الكتاب المغالطات التي أوردها طه حسين في هذا الشأن بصورة واضحة لا لبس فيها، كما قدم في مجال النقد أيضًا كتابه “النقد الأدبي أصوله ومناهجه”.

أما سيد قطب  صاحب الفكر الإسلامي الرشيد فأول ما قدم في هذا الصدد “العدالة الاجتماعية في الإسلام” ثم أردف كتابه هذا بمؤلفاته الآتية:-
معركة الإسلام والرأسمالية
السلام العالمي والإسلام
دراسات إسلامية
نحو مجتمع إسلامي
وعندما تحركت أشواق الشهيد سيد قطب ليخدم الحركة الإسلامية في إطار جماعةهي جماعة الإخوان المسلمين – قدم للإسلام هذا التراث الخالد:-
هذا الدين
المستقبل لهذا الدين
خصائص التصور الإسلامي ومقوماته
الإسلام ومشكلات الحضارة
في ظلال القرآن
معالم في الطريق

المراجع
• (
الشهيدان) للأستاذ صلاح شادي.
• (
سيد قطب بين العاطفة والموضوعية) للمستشار سالم البهنساوي.
• (
الموسوعة الحركية) إشراف الأستاذ فتحى يكن.
• (
من أعلام الحركة الإسلامية) للمستشار عبد الله العقيل.
• (
سيد قطب حياته وأدبه)  للأستاذ عبد الباقي محمد حسين.

عن Admin