د. مصطفى يوسف اللداوي

زيف التوافق القومي الإسلامي

د. مصطفى يوسف اللداوي
د. مصطفى يوسف اللداوي

زيف التوافق القومي الإسلامي

د. مصطفى يوسف اللداوي

لسنين طويلة مضت ظننت أن التيارين القومي العربي والإسلامي قد توافقا، وأنهما قد قفزا على مشاكلهما الداخلية، وقد طويا صفحاتٍ سوداء من تاريخهما الذي اتصف بالتصادم وعدم اللقاء، وشابه خلال سنواتٍ طويلة في النصف الثاني من القرن العشرين، مواجهاتٌ وصداماتٌ مسلحة، أودت بحياة الكثير، وأضرت بمصالح البلاد ومرافقها العامة، وأثرت على سمعة الدول العربية ومكانتها الدولية، وتسببت في قطع جسور التوافق والتلاقي بين التيارين، بعد أن بالغ التيار القومي الذي كان يحكم في أكثر من بلدٍ عربي في رد فعله على أتباع التيار الإسلامي، فاعتقل الآلاف منهم، وحاكم وأعدم المئات من خيرتهم، كما ساهم في تشريد وهروب أو هجرة عشرات الآلاف من المنتسبين للحركات الإسلامية.

ظننت أنهما قد تجاوزا الماضي، وقد تخلصا من ربقة الأنظمة السابقة، وأعلنا البراءة من كل ما سبب القطيعة بينهما، أو كان له دور في إثارة الخلافات والتناقضات بينهما، أو دفعهما للتنازع والاقتتال، وأنها رحما الأجيال التالية من الاحتكام إلى تاريخ أسلافهم، وتحمل مسؤولية أخطاء السابقين، بعد أن أدركا أنهما يمثلان جناحي الأمة التي بهما تنهض وتحلق، وبدونهما أو بأحدهما تصبح ضعيفةً مهيضة الجناح، عاجزة عن التحليق أو المواجهة، وأضعف من أن تصمد وتبقى.

ولكن هذا التزاوج بينهما كان يلزمه تسامحٌ ومصالحةٌ، وإقرارٌ من الطرفين بحاجة كل طرفٍ إلى الآخر، وأن أحدهما لا يستطيع شطب الآخر ولا تجاوزه، وأنه لم يعد من الممكن أن يحكم فريقٌ الآخر، أو أن يجبره على الخضوع والنزول عند أحكامه ومفاهيمه، كما لم يعد من السهل أن يتفرد تيار بحكم البلاد، وتسيير شؤون المواطنين، مهما كان قوياً وكبيراً، دون أن تنشأ بين التيارين تحالفاتٌ وتفاهمات، تقوم على أرضية المشاركة في الوطن، وتقاسم الأعباء والمسؤوليات والواجبات.

وكان يسعدني كثيراً أن أرى أقطاب التيارين القومي والإسلامي يتلاقيان ويتحاوران، ويتبادلان الإبتسامات والتحيات، ويعقدان الخلوات والمؤتمرات، ويشتركان في الندوات والمحاضرات، ويحسن كلٌ منهما الإصغاء إلى الآخر، وتقدير آرائه واحترام أشخاصه، مع حرصٍ واضحٍ على تجاوز الماضي، والتعامل وفق مفردات الحاضر، والاعتراف بأهمية كل فريق، وبوجوب أن يكون له دور ومساهمة، فلا هيمنة ولا سيطرة، ولا شطب ولا إلغاء، ولا تهميش ولا إقصاء، ولا حرمان ولا اجتثات، وإنما تقاسمٌ ومشاركةٌ، وتلاقي وتحاورٌ وتفاهم، وهو ما بدا جلياً في المؤتمرات القومية الإسلامية، وفي مؤتمرات الأحزاب العربية، وفي مؤتمرات القدس والملتقيات العديدة التي عقدت من أجل القدس والأسرى وحق العودة وغيرها.

ولكن ما بال العهد بين التيارين قد نُقض، والحلف الذي بينهما قد انهار، والتفاهم الذي كان قد انتهى، وكأن التيارين كانا يخدعان بعضهما البعض، وينافق كلٌ منهما الآخر، ويبديان خلاف ما يظهران، ويتحدثان نقيض ما يؤمنان أو يعلنان، وكأنهما كانا يدعيان التوافق وهما أبعد ما يكون عن اللقاء، فقد تواجه الفريقان، وتبارز التياران، ووقف كلٌ منهما في مواجهة الآخر، يتحديان بعضهما البعض، وقد صمم كلُ فريقٍ على النيل من الآخر أو اسقاطه، وأبديا في معاركهما المشبوهة الاستعداد لتدمير البلاد، وإزهاق أرواح المواطنين، وإهدار مقدرات الأمة، وتحطيم آمال الشعوب، بل والتحالف مع الغرباء، والاتفاق مع الأعداء، من أجل أن يستقوي فريقٌ على الآخر، ليسقطه أو يوهنه.

التياران يعلمان أنهما يخاطران بمصالح الأمة، ويعرضان أمن بلادنا العربية للخطر، ويدركان أن العدو فرحٌ بما يجري في بلادنا، وسعيدٌ بما يصيب قلوبنا ونفوسنا، وبما يلحق ببلادنا وبمؤسساتنا، فهو يتربص بنا، ولعله يذكي نار الخصومة بيننا، ويشعل فتيلها إن خبا أوراها، أو انطفأ لهيبها، فلا مصلحة لعدونا في أن نتفق، ولا أمل له بيننا أو بلادنا إن توافقنا وتلاقينا، ولهذا فإنه يستخدم بعضنا ليتسلل خلالنا، ويستغل خلافاتنا لينفذ بيننا، ويخدعنا ليكون له دورٌ ووجودٌ وتأثيرٌ ونفوذ.

كنا نظن أن ثورات الربيع العربي، وانحسار بعض الأنظمة الشمولية والديكتاورية، التي حكمت الشعوب بالحديد والنار، وأغلظت في تعاملها مع أتباع التيار الإسلامي بأشد مما عاملت به أقطاب التيار القومي، الذي نَعِمَ في ظل أغلب هذه الأنظمة بالكثير من الحرية، فلم تُغلق مؤسساته، ولم تُسحب الشرعية من أحزابه، ولم تُصادر أمواله، ولم تُلاحق رموزه وأقطابه، ولم يُسجن أتباعه ومناصروه، بل كانوا جزءاً من السلطة، وركناً من أركان الحكم، كنا نظن أنهما سيتعاونان معاً، وسيتفقان على إدارة شؤون البلاد، وتسيير الحكم فيها، وكنا نظن أنهما سيتبعان الشرعية، وسيخضعان للديمقراطية، وسيحترمان نتائج الإنتخابات، وما تفرزه صناديق الاقتراع، وأنهما سيذللان لبعضهما الصعاب، وسيزيلان من طريق بلادهما العقبات، وسيواجهان معاً الأزمات والتحديات.

لكن المفاجأة كانت انقلاب القوميين على الإسلاميين، وإعلانهم الثورة ضدهم، وتأليب الشارع عليهم، فقد رفض القوميون نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية، وشككوا في شرعية الانتخابات ونزاهتها، وطعنوا في دستورية الأحكام والمراسيم والقوانين، وحملوا القيادات الجديدة كل التركة القديمة، بكل ما فيها من فسادٍ وخرابٍ وتدهور، وما عليها من ديونٍ والتزاماتٍ وتعهدات، رغم علمهم أنها تركة الأنظمة السابقة، وأنهم لا يتحملون المسؤولية عنها، وإن كانوا يبدون تصميماً على مواجهتها والتصدي لها.

لكن التيار القومي آثر التحالف مع الفلول، والإتفاق مع بقايا الأنظمة التي السابقة، من الفاسدين والمتورطين والمشاركين في جرائم كبيرة، وهدد الأنظمة الجديدة التي فازت ديمقراطياً في انتخاباتٍ حرة ونزيهة، بالتنحي وترك الحكم، أو بالخروج إلى الشوارع، والاعتصام في الميادين والساحات، وتعطيل الحياة العامة، وتجميد مرافق الدولة، حتى تخضع الحكومات لبلطجتهم وتتنحى، رغم أنه لم يمض على هذه الأنظمة مدة زمنية كافية، تمكنهم من الإصلاح والإنطلاق، ومن فتح كل الملفات والتعامل معها.

ألا يحق لنا أن نشكك في حقيقة تلاقي التيارين القومي والإسلامي، فقد كان لقاؤهما محض كذب، وحوارهما تسلية وتمضية وقت، واجتماعهما سرابٌ أو لالتقاط الصور وإحياء المناسبات، وأن الماضي الذي كان بينهما لم يغب، بل كان وما زال حاضراً وماثلاً بينهما كالجبال، يفصل بينهما، ويحول دون اتفاقهما بصدق، وأنهما كانا يخدعان شعوبنا، ويضحكان على أجيالنا، ويبطنان خلاف ما يظهران، وأنهما يخافان من بعضهما، ويرفضان احترام إرادة شعوبهما، وأن التيار القومي مازال يتطلع بعيونِ الماضي، ويحلم بسطوته القديمة، وسلطاته الكطلقة، وأنه استعظم أن يفوز المظلومون، وأن ينتصر المعذبون، وأن يحكم البلاد الذين كانوا بالأمس في سجونها، ونزلاء زنازينها.  

عن Admin

اترك تعليقاً