ولكنكم تستعجلون

تستعجلونولكنكم تستعجلون

هاني حسبو

مما لا شك فيه أن الصراع بين الحق والباطل صراع أزلي قدري وكوني وهذا أمر لا يجادل فيه اثنان. فهو صراع بدأ منذ أن أهبط الله آدم عليه السلام وإبليس اللعين إلى الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وهذا الصراع له سنن وقوانين إلهية لا تتبدل ولا تتغير بتغير الأزمان والأشخاص بل هي ثابتة مادامت السماوات والأرض. قال الله تعالى:

“فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً”

ومن هذه القوانين والسنن الإلهية ما أخبرنا الله عزوجل بقوله:

فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ”

ومنها أيضا:

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ”.

إذن هو صراع لابد منه تتنافس فيه قوى الخير والشر ولابد للخير أن ينتصر لكن هذا النصر ليس بالسهل الذي نتصوره بل يكون بسنن وقوانين أخرى إن توافرت في الذين يقفون في صف الحق كان لهم النصر وكانت لهم العزة. هذا ما يؤكده لنا هذا المشهد النبوي العظيم:

ولما زاد ضغط المشركين وتعذيبهم للمسلمين المستضعفين، شكي خباب إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقال: (شكونا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا ؟، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: كان الرجل فيمن قبلكم، يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون”

الذي يتخيل هذا المشهد يدرك حقيقة الموقف وخطورة الأزمة التي كان الصحابة يعيشونها في تلك الفترة من أذى واضطهاد وعذاب ومحنة وصلت للذروة كما نطقت بها شفاه خباب رضى الله عنه.

كلمات صادرة من قلوب أتعبها العذاب وأنهكها الجهد المبذول، لذلك ذهب خباب إلى المعلم الأول ليجد عنده الملجأ والنصرة والخروج من المحنة والأزمة بعد استبطاء النصر. هنا يأتي دور المرشد والمربى الذي يهيأ الأجواء حتى يستطيع المتلقي أن يفهم القضية برمتها فيتعامل معها وفق السنن والقوانين الإلهية أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يعلمه ويعلمنا أنه لا نصر قبل الصبر والبلاء فيصور لهم مشهدا حسيا كأنهم يرونه رأى العين أن ما يلاقوه الآن قد حدث أسوأ منه في العصور السابقة لهم. ثم ينبههم إلى خطورة استعجالهم للنصر قبل تحقق الشروط الجالبة له.

ومع ما هم فيه من البلاء وتوقع حدوث الأسوأ نجده عليه الصلاة والسلام يبشرهم ويبث الثقة والطمأنينة في النفوس ويخبرهم بتجاوز المحنة بل ونشر الإسلام في ربوع الدنيا كلها لا لشيء إلا لاستنهاض الهمم والعمل الدؤوب والصبر حتى يتم النصر.

ما أشبه حال خباب بحال كثير منا الآن، شهداء ودماء تراق وأسر تيتم وسيدات ترمل ولسان حال القوم “متى نصر الله”.

الصراع بين الحق والباطل له ثلاث صور: الصورة الأولى صورة التدافع بين الحق والباطل وهي المقصودة في السطور السابقة.

الصورة الثانية هي سنة الابتلاء والتمحيص وهي مرحلة مهمة جدا في طور الصراع وهي التي قال الله سبحانه فيه:

مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيم”

يقول سيد قطب _رحمه الله تعالى_: “ويقطع النص القرآني بأنه ليس من شأن الله _سبحانه_ وليس من مقتضى ألوهيته، وليس من فعل سنته، أن يدع الصف المسلم مختلطاً غير مميز، يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان، ومظهر الإسلام، بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان، ومن روح الإسلام؛ فقد أخرج الله الأمة المسلمة لتؤدي دوراً كونياً كبيراً، ولتحمل منهجاً إلهياً عظيماً، ولتنشئ في الأرض واقعاً فريداً، ونظاماً جديداً، وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك، ويقتضي ألا يكون في الصف خلل، ولا في بنائه دخل، وبتعبير مختصر يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدره الله لها في هذه الأرض، وتسامي المكانة التي أعدها الله لها في الآخرة.

 

وكل هذا يقتضي أن يصهر الصف ليخرج منه الخبث، وأن يضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة، وأن تسلط عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر، ومن ثم كان شأن الله _سبحانه_ أن يميز الخبيث من الطيب ولم يكن شأنه أن يذر المؤمنين على ما كانوا عليه قبل هذه الرجة العظيمة.”

تلكم هي النقطة المحورية الآن، نحن في مرحلة التمحيص وإزالة الشوائب لننعم بالحرية صافية لا كدر فيها.

ثم تأتى الصورة الأخيرة وهي صورة الإملاء والاستدراج وهى التي قال الله فيها:

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ”

وتلك الصورة تجدها واضحة في أنواع البطش والظلم والتجبر التي يمارسها الطغاة وتصل إلى ذروتها عندها اعلم يقينا أن النصر آت لا محالة بشروطه وسبله فنحذر أن نكون ممن حذرهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله “ولكنكم تستعجلون”.

وأخيرا هذه رسالة قرآنية واضحة:

“” وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً”

فاللهم أهلك الظالمين وأرنا فيهم يوما أسودا.

عن Admin

اترك تعليقاً