أنا رئيس الجمهورية

morsi courtأنا رئيس الجمهورية
ترجل من طائرة الهوليكابتر بثقة، وكـ»جنتل مان» أغلق زر الجاكيت، وصار مع مرافقيه بهدوء كرئيس جمهورية منتخب يستعرض حرس الشرف، ولم يكن ثمة حرس شرف يؤدي التحية العسكرية «سلام قف»، وإنما عسكر ورجال مخابرات رافقوه نحو قاعة المحكمة بأكاديمية الشرطة بالتجمع الخامس.
ومنذ دخوله قاعة المحكمة وحتى مغادرته لها، أصر على أن يُخاطَب بوصفه رئيس الجمهورية المنتخب.
محاكمة استمرت نحو سبع ساعات، لم يبث منها على الفضائيات سوى ثلاث دقائق! بعد ساعات طويلة من المونتاج والحذف والقص واللصق؛ لأخذ اللقطات التي تخدم العسكر، وتقلل من المكاسب السياسية والإعلامية التي يمكن أن يحققها مرسي الذي حَوَّل قاعة المحكمة إلى محاكمة للانقلاب، مُقدِّماً لائحة اتهام بحق وزير الدفاع الفريق عبد الفتاح السيسي ومن معه.
مرسي الذي حَمَل لقب: رئيس جمهورية مصر العربية، سيادة الرئيس، والقائد الأعلى للقوات المسلحة، دخل قاعة المحكمة بوصفه متهماً بـ»التحريض على القتل»، إضافة إلى مسميات أخرى: فهو الرئيس المعزول، أو المقال، أو المخلوع، أو الأسير، أو المعتقل، وفقاً لموقع الخبر ومكان نشره وجهته.
هو الآن سجين في سجن برج العرب في الإسكندرية الذي يحظى بإجراءات أمنية مشددة.
مصيره مجهول، هل يعود من جديد رئيساً لجمهورية مصر العربية؟ هل يُسجَن لفترة طويلة بتهم ملفقة؟ هل يبقى في الإقامة الجبرية في منزله؟ هل يخرج من مصر إلى دولة أخرى؟ هل يتم إعدامه؟ هل يقتل في ظروف غامضة وبطريقة يصعب كشفها، كما تتحدث بعض التكهنات عن قتل ياسر عرفات، وجمال عبد الناصر، وجون كنيدي وغيرهم؟!
انتُخب بانتخابات نزيهة بنسبة أصوات تزيد قليلاً على الأصوات التي حققها الرئيس الأمريكي أوباما الذي عجز حتى الآن هو ومستشاروه ومساعدوه -الذين يزيد عددهم على 500 موظف- عن وصف ما حدث في مصر بـ»الانقلاب العسكري»! وما يزال يخوض حرباً كلامياً للبحث عن وصف ما جرى في مصر بشيء آخر غير الانقلاب!
منذ اليوم الأول لتسلمه الحكم، وقف ضده الجيش والأجهزة الأمنية والأجهزة الخدمية كافة، وسفارات عربية وأجنبية، ومنظمات دولية ومجتمع مدني، وفلول النظام السابق، وتحالف رجال الأعمال الفاسدين، وضَخَّت أموالٌ عربيةٌ الدم واللسان إلى جيوب السياسيين والمعارضين له، وأصحاب القنوات الفضائية، ولو أنها ضَخَّت في المكان الصحيح لَرُبما حلَّت مشكلة «العشوائيات» وسكان المقابر الذين يزيد عددهم في مصر على ستة ملايين شخص.
ورث محمد مرسي تَركة ثقيلة تقصم الظهر، وهو حين وقف على تُخوم الواقع المُرِّ لمصر -حاضنة العروبة وبوابة المستقبل العربي- وجد أمامه عشرات الملفات التي تحتاج إلى سنوات من الصبر والعمل والصد والرد.
لا يوجد ملف مصري لا يواجه معضلة أو مأزقاً، سواء كان ملفاً داخلياً أم خارجياً، كل الملفات كانت عبارة عن قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أيِّ لحظة، وساحة مفتوحة أمام جميع الاحتمالات.
في دولة وصلت ديونها إلى أرقام فلكية (الديون الخارجية بلغت نحو 34 مليار دولار، والديون الداخلية نحو 250 مليار دولار)، يحتاج المرء إلى أكثر من عصا سحرية أو كيس ممتلئ بالنوايا الطيبة.
وقف مرسي على حد السكين، واجه ماكينة إعلامية أُرْصِدَت لها ملايين الدولارات من الداخل والخارج. حملة إعلامية حكمت عليه بالفشل منذ اليوم الأول في مواجهة مشاكل تراكمت منذ أن طبّق الرئيس المصري الراحل أنور السادات سياسة الانفتاح، كما واجه ضغطاً شعبياً متزايداً لتصحيح أخطاء عالقة منذ عشرات السنين بأقصى سرعة، وبقفزة تفوق «قفزة فيليكس» الأسطورية.
كان هدفاً للمعارضة داخلياً خارجياً، المعارضة التي تريد الإيحاء بأنَّ رئاسة مرسي مِصْرَ هي رئاسة «إخوانية»! وبأنّ البلاد أصبحت «عزبة للإخوان».
وبعد الإطاحة بقادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والكشف عن أكثر من قضية فساد تورّط فيها المرشح الرئاسي السابق أحمد شفيق، والإصرار على إبقاء الرئيس السابق محمد حسني مبارك حبيس السجن، بات الرئيس مرسي هدفاً لرماية الأحزاب ووسائل الإعلام وسفارات ما تزال تَحنُّ إلى عهد مبارك.
تجاوزت الهجمة الساحة الداخلية المصرية، ووصلت إلى بعض الساحات العربية، مع اختلاف الأسباب.
في مصر، كما هو في باق الدول العربية، تُمارَس السياسة العربية على خلفية إقصائية، وخصوصاً في ظل الاستقطاب الحاد، وبدلاً من محاولة كل طرف دفع العملية الديمقراطية إلى الأمام، يسعى البعض إلى التخلص من الآخر، وإخراجه نهائياً من الساحة السياسية، وربما من الوجود!
الاستقطاب السياسي الداخلي في مصر يبدو مفهوماً إلى حد كبير بعد سنوات من القمع، ومصادرة الحريات، وإفقار الناس، وغياب صوت الإنسان المصري الذي أصبح الآن أكثر جراءة وثقة، تنبض منه مشاعر الكبرياء.
مرسي كان حاسماً في السياسة الخارجية؛ فلسطينياً: فتح المعابر التي أغلقها مبارك، وتنفس أهالي غزة الصُّعَداء في عهده، كما أنّه سارع إلى قطع علاقات بلاده مع سوريا، وطالب في أكثر من موقع بتنحي الرئيس بشار الأسد عن السلطة، وكان حذراً في التعاطي مع الملف الإيراني، وسط هواجس ومخاوف حقيقية من دول الخليج العربي من طموحات إيرانية، للعب دور شرطي المنطقة، وهو نفس الدور الذي لعبه الشاه سابقاً.
وكان الأمر أشبه بالانتصار عند البعض، بعد أن تحدَّث مرسي أمام قمة حركة عدم الانحياز التي استضافتها طهران؛ حيث «تَرَضَّى» على الخلفاء الراشدين. وحين أَقْحمت الترجمة الفارسية على كلمته اسم البحرين في النص الذي لم يَقُله، أصرت الخارجية المصرية على التصحيح.
مرسي لم يكن ممثلاً لـ»الإخوان المسلمين»، رئيس الوزراء ومعظم أركان وزارته لم يكونوا من «الإخوان»، قادة الأجهزة الأمنية والجيش وكبار المسؤولين في الدولة لم يكونا «إخواناً». كان من بقايا النظام السابق وسائل الإعلام كانت مستقلة لدرجة أنّها تمادت في انتقاده بشكل شخصي مسيء و»قليل الأدب» من قبل بعض الإعلاميين الذين تحوّلوا إلى «الردح»، دون أن يغلق فضائية أو صحيفة واحدة.
يقال إنَّ الانقلاب العسكري بقيادة السيسي لم يكن وليد الثلاثين من حزيران (يونيو)، وإنما بدأ الإعداد له منذ اليوم الأول لانتخاب مرسي وسقوط أحمد شفيق أمام صناديق الاقتراع، وإنَّ الشارع لا دخل له في ما جرى.
لقد احتاج الغرب والعالم إلى سنوات طويلة من التطويع، وأُنفقت ملايين الدولارات من أجل جرِّ تيار «الإسلام السياسي» إلى صناديق الاقتراع، والاندماج بالقنوات الديمقراطية. والآن مع إحساس الإسلاميين بأنّهم سُرقوا إعلاميا، وفي الوقت الذي عادت فيه الحشود الكبيرة مرة أخرى إلى شوارع القاهرة والمحافظات المصرية الأخرى بعد إطاحة الجيش بالرئيس المنتخب محمد مرسي، أخذ كثيرون في التساؤل: وماذا بعد؟
وكما تقول عدة وسائل إعلامية عالمية، فإنَّ وقت الابتهاج في ميدان التحرير ربما يكون قصيراً، وإنَّ تداعيات ما حدث ربما تتوالى في الظهور. ويرى كثير من المحللين أنّ التداعيات الكبرى ربما تتعلق بالتوجه الذي قد تسلكه تيارات «الإسلام السياسي» في مصر، والمنطقة بشكل عام بعد الانقلاب.
يقول المراسل الأمني لـ«بي بي سي» فرانك جاردنر في مقال له: «إنّ الرسالة التي سيفهمها الإسلاميون من الإطاحة برئيس إسلامي منتخب، وتعطيل الدستور هي أنّ صندوق الاقتراع ليس بالضرورة أفضل من البندقية».
ويسود قطاع واسع من الإسلاميين في مصر وخارجها شعور عميق بالمرارة والظلم في أعقاب إطاحة الجيش بمرسي؛ إذ يرون أنّ ما جرى ليس سوى مصادرة لحقهم في الحكم بعد وصولهم إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع؛ وهو ما يمكن الدلالة عليه عبر المظاهرات التي جرت في عدد من المدن حول العالم.
الوقت في مصر يتدحرج في دوائر لا نهائية من الصدام والفوضى، فيما يريد البعض له أن يتدحرج إلى جيوبهم وحساباتهم البنكية عكس حركة التاريخ، وعلى حساب الدم العربي المصري، والجغرافية التي جعلت من مصر بؤرة الحلم العربي، لا يمكن لأحد أن يختطفها؛ فالعواصم مثل الرجال والخيول تسير مع حركة التاريخ، وتنهض من الرماد طائراً أسطورياً لا يَعْبأ كثيراً بـ«دريم» و«النهار» و«العربية» و«روتانا» و«إم بي سي» و»القاهرة والناس»، وجوقة تزييف الوعي و»شيطنة» الآخر.

علي سعادة

عن Admin

اترك تعليقاً