أوروبا من غير بريطانيا

أوروبا من غير بريطانيا

ألان فراشون – «لوموند» الفرنسية

التقى الرئيس الفرنسي في لندن بالرجل الذي يملك تقليص عدد أعضاء أوروبا من 27 دولة إلى 26 دولة. ولا يرغب رئيس الوزراء البريطاني دايفيد كاميرون في خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، فهو لا يؤيد أوروبا ولا يعاديها، لكنه قد يضطر إلى مثل هذا الانسحاب، فثمة عملية سياسية واشتراعية ترجّح كفة مثل هذا الانسحاب. وقطبا العملية هذه هما سياسة حزب المحافظين، وكاميرون على رأسه، وتغيُّر أحوال الاتحاد الأوروبي الذي تعصف به أزمة اليورو. وسيف قانون أقرّ العام الماضي مصلت على رئيس الوزراء البريطاني. ويرهن القانون هذا نقل صلاحيات جديدة إلى بروكسل باستفتاء شعبي، فبريطانيا لن تتنازل عن أيّ شطر من سيادتها من غير موافقة البريطانيين. ويترتّب على مثل هذا القانون تعثُّر مشروع ألمانيا أنغيلا مركيل: تغليب كفة «الحكومة الاقتصادية»، وتنسيق الموازنات بين دول الاتحاد، وتعزيز الاتحاد السياسي والدينامية الاجتماعية. وتنازل الدول الأوروبية عن شطر من سيادتها لا غنى عنه في إنقاذ منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي، وهذا ما لا تنكره لندن، لكن الاستفتاء يقيّد يد الحكومة البريطانية، فالبريطانيون متمسكون بسيادتهم المالية واستقلال موازنتهم العامة: نظام الضمان الاجتماعي وساعات العمل ونظام التقاعد. ولذا، لم يلتحقوا بمنطقة اليورو. ويدرك كاميرون دواعي اتجاه دول منطقة اليورو الـ17 نحو تعزيز الاندماج في الاتحاد. وقبيل اجتماعات هذه الدول، لا يوفّر نصائحه، وهو يحضّ دول منطقة اليورو على المضي قدماً نحو اتحاد مصرفي ومالي لإنقاذ اليورو. ودرج القادة البريطانيون، ما خلا توني بلير، على النظر بعين الريبة إلى اليورو.
والحق أنّ البريطانيين لا يرغبون في انهيار اليورو، على رغم تحفظاتهم، فانهياره لا يصبّ في مصلحة الـ»سيتي»، أبرز مركز مالي لتداول اليورو، ولا في مصلحة الاقتصاد البريطاني الوثيق الارتباط باقتصاد أوروبا. لكن طوق نجاة اليورو، أيّ إرساء نواة اتحاد صلبة بين الدول الـ17، يبعث القلق في بريطانيا. فإذا كتبت الحياة لهذا المشروع، برز اتحاد متماسك ومتضامن في قلب الاتحاد الأوسع. ومثل هذا الاتحاد يغيّر موازين القوى في أوروبا.
فمنطقة اليورو المندمجة والمتماسكة قد ترتقي كتلة مهيمنة على الاتحاد الأوروبي، وإذا أبرمت الدول الـ17 الاتحاد المالي العام، هُمشت مكانة لندن وصار دورها ثانوياً. ونددت صحيفة «دايلي تيليغراف» المغالية في المحافظة بإنشاء «دولة خارقة تجمع أواصر دول منطقة اليورو على حدود المملكة المتحدة. وترى الصحيفة هذه أنّ البريطانيين لم يوافقوا على مثل هذه الخطوة يوم انضموا إلى أوروبا في 1975، وأنّ طبيعة الاتحاد الأوروبي تغيّرت. ووجّه مئات النواب المحافظين رسالة إلى ديفيد كاميرون ينبّهونه فيها إلى أنّ مثل هذا المشروع يقلب الأمور رأساً على عقب ويقتضي التفاوض من جديد على شروط بقاء بريطانيا في أوروبا.
وردّ رئيس الوزراء على الرسالة هذه في الصحيفة نفسها، وقال أنّه «يتفهم» قلق المحافظين، و»يعدّ العدّة» لمثل هذه المفاوضات، وأنّه يريد استعادة بريطانيا صلاحياتها من بروكسيل. وترمي بريطانيا إلى البقاء في السوق الموحدة، ولكنها تندد بـ»تدخل» الاتحاد الأوروبي في مجالات البيئة والعدالة وساعات العمل. ويرجح أن يلتزم ديفيد كاميرون أمام حزبه في انتخابات 2015 التفاوض على شروط بقاء بلاده في الاتحاد الأوروبي وربط إقرار نتائج المفاوضات هذه باستفتاء عام. وتشبه مجلة «ايكونوميست» المطلب البريطاني هذا بالابتزاز، فدول الاتحاد الأوروبي ستضطر إلى تقديم تنازلات كبيرة إلى بريطانيا. ويقول مدير مركز الإصلاح الأوروبي في لندن تشارلز غرانت أنّ حظوظ كاميرون في التنصل من الاستفتاء على مسألة أوروبا في ولايته الثانية ليست كبيرة. ولا يرغب قادة حزب المحافظين، شأن نظرائهم العماليين، في انسحاب بلادهم من الاتحاد الأوروبي. ولكن العجلة التي تنتهي إلى الاستفتاء تدور، والظروف غير مواتية، فشعبية أوروبا في بريطانيا ضعيفة ضعفاً يفوق ضمورها (الشعبية) في بلد مثل فرنسا، ولم يسبق أن بلغ الميل إلى معاداة أوروبا هذا المبلغ من الرسوخ في أوساط حزب المحافظين. وتؤجج وسائل الإعلام مشاعر الرأي العام الرافضة لأوروبا، فهي تقصر تناولها الاتحاد الأوروبي على جوانبه السلبية، وعدد من النواب المحافظين يرغب في تفاوض بلاده على شراكة مع الاتحاد الأوروبي تحاكي شراكته مع سويسرا، ومثل هذه الشراكة تضمن لبريطانيا الوصول إلى السوق المشتركة، وتجنبها مترتبات الانتساب إلى الاتحاد. ويبدو أنّ بريطانيا لم تكن يوماً على قاب قوسين من الانسحاب من أوروبا على ما هي اليوم.

عن marsad

اترك تعليقاً