الشيخ رفاعي سرور ومدرسة أويس

الشيخ رفاعي سرور ومدرسة أويس

د . رقية رفاعي سرور

روى مسلم بسنده عن أسير بن جابر قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم أفيكم أويس بن عامر حتى أتى على أويس فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم قال: لك والدة؟ قال: نعم قال: سمعت رسول الله يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره؛ فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل؛ فاستغفر لي فاستغفر له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم فوافق عمر فسأله عن أويس قال: تركته رث البيت قليل المتاع أسير وكسوته بردة فكان كلما رآه إنسان قال: من أين لأويس هذه البردة.

عندما تفوح سيرة أويس فإن ذكرى أبي تصاحبها في مخيلتي و وجداني .. أعلم أن أويس تابعي له فضل على بعض الصحابة أنفسهم ، وأعلم أنه عبد له مزية خاصة جداً ، وأعلم أنه من دلائل النبوة حيث أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يظهر للناس إلا بعد ما مات رسول الله ، وأعلم أن زمن أويس قد انتهى
ولكن قل ان شئت انها مدرسة أويس ..
رحمة الله عليك يا شيخي .. كان أبي لا يجلس في مجلس عند موضع التميز ، ولا يستأنس الخطابة في كل جمع ، ولا يتصدر الوعظ عند كل مشهد ، ولا يذكر نفسه إلا إذا قال ” إحنا ولا حاجة ” عندما يشهد حال المجاهدين المرابطين .. هكذا كان رحمه الله تلميذاً في مدرسة أويس ..

أتذكره عندما عرض عليه بعض الأفاضل سكن في منطقة أرقى في بيت له ” مصعد ” ويكون الهواء أنقى وأنظف ، ولكنه قال أنه لن يترك المطرية ..إنها غبراء الناس التي أحبها أويس و والدي والتي كانت أحب إليه من أي منزلة ومنزل .
وإن كانت غبراء الناس تعبير لطيف يمتليء بالروعة في الإشارة إلى الاختلاط بعموم الناس وعدم الانحياز إلى الراحة الشخصية أو المصلحة الخاصة أو التميز بأي شكل ، فإن غبراء الناس التي عاشها والدي كانت آلامهم وأوجاعهم التي لم يعايشها فقط بل كانت قضيته ، فعاش ” بيت الدعوة ” قبل أن يؤلفه ، الاصلاح بين الأزواج كانت وظيفة شبه يومية له ، ثم حل الخلاف بين الناس في تعاملاتهم المادية أو الفكرية ، كيف لا وهو من قيل عنه مصب الجماعات الإسلامية .. والفكرة أنه كان يحلم بمجمتع اسلامي قوي من حيث الأصل والفروع وابتداءاً من الأسرة وحتى العلاقات بين الجماعات الفكرية الاسلامية المتباينة ، فكان رأب الصدع هو هوايته ، وإعذار الناس سعادته ورفع الحرج عنهم هو مذهبه ، حتى السقطات الإنسانية كان يتعامل معها بمنتهى النبل بل بمنتهى العجب ، أذكر أن أحد الناس قد اضطر للتعامل مع الجهاز الأمني فأصبح عين لهم على أبي وعندما رأى هذا الشخص من كرم الشيخ معه حتى فاضت عيناه وقال له إنما جئت إليك لآخذ نسخة من كتابك الجديد لأمن الدولة وأنا الآن لا استطيع إلا اخبارك بما كنت أنويه فخفف عنه وأعطاه نسخة مبدئية ومشوهة من الأخطاء المطبعية وقال له روح اديلهم ده عشان ما تدخلش عليهم وإيدك فاضية !
ثم اتجه إلى الحيلولة بين الشيطان وبين المجتمع المسلم فألف عندما ترعى الذئاب الغنم وعاشه أيضاً فتعرض لأخطر جانب قد يتصوره مغامر عندما كشف أدوات الشيطان الكونية وسبل التسلط على البشر ، فدرس ظاهرة مثلث برمودا وربط بينها وبين مضاهاة إبليس لفعل الله سبحانه عندما كان عرشه على الماء وعلاقة هذه المساحة المائية بباطن الأرض حيث الكتلة الملتهبة ، حتى خلص إلى علاقة الدولة الكافرة بالتسلط الشيطاني المباشر ابتداءاً من الفراعنة وحتى وقتنا الحاضر ، وكانت له استقصاءات في هذا الشأن لم يتوصل لها أحد ، واستنباطات جعلته في مطاردات مع الشياطين بعد مطاردات أمن الدولة .. ولكن الله سلم ، ، ثم ألف في النظرية السياسية الإسلامية ولعل المتأمل يتسائل عن العلاقة والرابط بين السياسة وبيت الدعوة والاجتهاد في كشف أدوات الشيطان التاريخية والكونية ، ثم النفس والدعوة .. هي جميعاً علوم وقراءات وتحليلات متصلة بالجانب الإنساني للمجتمع المسلم الذي كان شديد التحيز والولاء له ، وشديد الأرق لمشاكله ، حتى أني لا أذكر أنه _ رحمه الله _ قضى ساعة من حياته لم يحمل فيها عبء هذه القضية وأقسم الله وأشهده على ذلك ..
من روائع حديث أويس أنه رضي الله عنه رفض أن يكتب الخليفة لأمير الكوفة يوصيه به ، والمتأمل يرى أن الخليفة أو أميره لم يكونا حاكما سوء ولا يخطر ببال أحد أن تلك الوصية سوف تستنزف من حقوق المسلمين أو يكون فيها جور عليهم لخاطر أويس ، ومع ذلك رفضها أويس وهو رفض العازف عن الشهرة والعلو في الحياة الدنيا وإن كانت بالقرب من حاكم عادل ، هو مبدأ الركون إلى الله وفقط ، هو يخاف على قلبه من تعظيم غير العظيم ومن إكبار غير الجبار ، شيء ما يحافظ عليه في قلبه جعل منه عبد موصول بالله لدرجه أن كل ما ينطق به إنما هو مجاب وكأن الرجل في الجنة وهو في الدنيا ، جعل منه حكاية للصالحين إلى الآن وسيرة يقشعر لها القلب والبدن ..
بره بأمه ليس صدفة ولم يذكر مع أوصافه لحشي الكلام عنه ، بر الأم من العبادات المخبئة عن الناس وإنما تنم عن رقة في القلب ودليل على أن هذا القلب قد صقله الإخبات ، سيما لما يمر الزمن بالمرء وقد على ذكره بين الناس من صلاحه ثم تجده يستصغر نفسه بامتنان وعرفان وشكران لصاحبة فضل ضعيفة . ففي شكرها مزيد من الاخبات وإنكار الذات.
كنت أجلس مع والدي وهو يحدث أمه كان يبرها بطريقة جميلة جداً وكأنه يهدي إليها كل خير أصابه في الدنيا أو الآخرة ، ويذكرها بأن لولاها ما عرف طريق المسجد ويعتذر لها في كل مرة عن كل لوعة قلب أصابتها من إصابته في سبيل الله ، ويذكرها بالاحتساب وبأجر الصابرين ، ويضخم لها كل جميل جادت به عليه ويبالغ في الثناء على إمكاناتها حتى لو كان الحديث عن طريقة إعداد طعام ما ، ويحكي للجالسين قصصاً ربما مر عليها دهور وفيها انبهر صديقه بطعام والدته وهي تسمع وتكون في منتهى النشوة وتتجاذب الحكايات وتكملها ، أو قصصاً كانت فيها قوية أمام الطغاة وهم يدهسون بيتها بحثاً عنه ، فلا يتركها إلا وهي في قمة السعادة والثقة والاحتساب .
كان لأبي جلباب يتسائل الناس من أين له به وهم يتعجبون لإن قماشه قد انقرض ! وهو قماش ” الكستور ” يحبه لإنه بسيط ويستريح فيه ، ولكن عندما احتاج للنزول والاعتصام أحياناً مع أبو اسماعيل قام أحد الناس بإهدائه بضعة عباءات لها رونق و وعده بإعداد ” استوديو ” تصوير ( يليق بخطبه ) ولكن الأجل قد انتشله من كل ما له رونق ..

عن marsad

اترك تعليقاً