المحكمة الدستورية تصدم الجميع وتُعيد رسم خارطة الطريق

المحكمة الدستورية تصدم الجميع وتُعيد رسم خارطة الطريق

د. حسن أبوطالب – القاهرة

“انقلاب عسكرى ناعم”.. و”حكم – صدمة”.. و”حكم تاريخى أقر الحق بلا نزاع”.. و”لم يراعي اعتبارات الموائمة السياسية” و”يمهد لإعادة النظام السابق من خلال المرشح شفيق”.. و”يُعيد الأمور إلى نقطة الصفر”..، وهو أيضا “حكم سياسى بامتياز”.

كل هذه الأوصاف وغيرها اجتمعت فى حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر الخميس 14 يونيو 201 والذى تناول أمرين شديديْ الخصوصية، أحدهما تعلق بعدم دستورية ما يُعرف فى مصر بقانون العزل السياسى، والثانى تعلق بحل البرلمان المصري كله باعتبار أن القانون المنظم للإنتخابات “يفتقد إلى المساواة ومَعيب دستوريا”.

خارطة طريق جديدة
وبعيدا عن التقييمات المبالغ فيها بالنسبة لحكم المحكمة الدستورية، فقد رسم خريطة طريق جديدة بالفعل ليس فقط لما تبقى من أيام محدودة فى عمر المرحلة الإنتقالية التى يُفترض أن تنتهى بنهاية الشهر الحالى حين يسلم المجلس العسكرى السلطة المدنية الرئاسية لرئيس منتخب، بل حدد أيضا مسار مرحلة أطول نسبيا قد تمتد إلى عامين أو أقل قليلا.

ووفقا لخريطة الطريق الجديدة فقد انتهى دور المؤسسة التشريعية المنتخبة، واستعاد المجلس الأعلى للقوات المسلحة سلطة التشريع ليسد بذلك الفراغ التشريعى الناجم عن بطلان مجلس الشعب، وهو ما يعنى فرصة كما يطالب بذلك المجلس الإستشارى للمجلس الأعلى الحاكم لكى يصدر المجلس العسكرى إعلانا دستوريا تكميليا يحدد فيه بشكل أكثر تفصيلا اختيار الجمعية التأسيسية للدستور الجديد، ويضع لها نظامها الداخلى ومدتها الزمنية وباقى تفاصيل عملها، وبحيث تكون مُمثلة لكل أطياف الشعب المصرى بصورة متوزانة ومقبولة من الجميع.
كما يفترض أن يضم الإعلان الدستورى التكميلى المنتظر بعض مواد جديدة تحدد دور الرئيس المنتخب ودوره التشريعى المرتقب حتى يتم انتخاب برلمان جديد، ومواد أخرى تحدد علاقته بهذا البرلمان بعد انتخابه فى غضون فترة قد تصل إلى ستة أشهر من الآن.

أما ثالثا، فقد حدد حكم المحكمة جوهر العوار الدستورى فى قانون الإنتخابات البرلمانية، مما يستلزم تغييره وإعادة تصويبه أو إصدار قانون انتخابات جديد تماما يحقق المساواة التامة بين المرشحين سواء كانوا منتمين للأحزاب أو مستقلين تماما. وفى كلا الحالتين، أي تصويب القانون القائم أو إصدار قانون جديد، فالمسؤول الأول في البلاد هو المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى أن يُسلم السلطة للرئيس المنتخب.

 

اجتهادات قانونية مضادة
مع ذلك، لا يخلو الأمر من اجتهادات قانونية ودستورية أخرى تستبعد تماما أن يستعيد المجلس العسكرى سلطة التشريع فيما تبقى من المرحلة الإنتقالية استنادا إلى أن قيامه بهذه المهمة فى السابق كان مرتبطا بعنصر الضرورة وليس بالأصالة، وأنه تنازل عنها تماما مع انتخابات مجلس الشعب المنحل دستوريا.

هذا الطرح يثير مشكلة أخرى حيث أنه يقضى بأن يكون هناك فراغ تشريعى مستمر حتى إجراء الانتخابات البرلمانية الجديدة، ونظرا لأن الإنتخابات البرلمانية تتطلب تعديلات تشريعية فى القانون المنظم لها يتناسب مع الحكم الصادر عن المحكمة الدستورية، فهذا معناه جمود الموقف تماما وفقدان القدره على تحريكه.

بكلمة أخرى، تؤكد هذه النتيجة أن فكرة عدم استعادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة للسلطة التشريعية أو للرئيس المنتخب ستقود إلى تأجيل الإنتخابات البرلمانية إلى أجل غير مُسمى، وستؤدي أيضا إلى انفراد السلطة التنفيذية بالعمل بعيدا عن الرقابة البرلمانية.

 

“العزل الشخصي”.. غير دستوري
الحكم الثانى قضى بعدم دستورية ما يُعرف بقانون العزل، وهى مجموعة التعديلات التى أضيفت على عجل من قبل البرلمان المنحل قبل وقت قصير للغاية من إغلاق باب الترشح، واستهدفت أشخاصا بعينهم لمجرد أنهم تولوا مناصب عليا فى السنوات العشرة الأخيرة فى عمر النظام السابق. ومن بين هؤلاء المرشح الرئاسى الفريق أحمد شفيق الحاصل على المرتبة الثانية فى جولة الإنتخابات الرئاسية الاولى، وينافس د. محمد مرسى مرشح جماعة الاخوان المسلمين فى الجولة الثانية التى ستجرى يوم السبت 16 يونيو.

كان هدف واضعى القانون واضحا لا لبس فيه وهو إزاحة الفريق شفيق باعتباره رمزا للنظام السابق، إذ شغل فى الأيام الاخيرة من عهد الرئيس مبارك المخلوع منصب رئيس الوزراء، وهى الأيام التى حدثت فيها المعركة الشهيرة بين المتظاهرين وبين مؤيدين للرئيس السابق فى قلب ميدان التحرير، وباتت تُعرف بمعركة الجمل، والتى شهدت مقتل عدد من المتظاهرين وإصابة الكثير منهم إصابات بالغة.

وبالرغم من أن واضعى القانون كانوا يدركون جيدا أنه لا يلتزم معايير صياغة القانون من حيث التجرد والعمومية والبعد عن شخصانية القاعدة القانونية وأنه لا فرض لعقوبة إلا بعد محاكمة قضائية وحكم نهائي يحدد حجم الجرم ومدى العقاب، ومع ذلك فقد أصروا على إصداره بحكم الأغلبية العددية التى كان يمتلكها حزبا الحرية والعدالة والنور السلفى فى خطوة أكدت نزعة انتقامية ذات بُعد شخصى.

 

برلمان غير موضوعي وقانون معيب
ومع صدور تلك التعديلات المعيبة دستوريا دخلت مصر فى حالة جدل قانونى ودستوري غير مسبوقة، وبدا أمام المصريين جميعا أن البرلمان المنحل الذى يهيمن عليه تيار الإسلام السياسى ليس صادقا فى تشريعاته ولا يستهدف خدمة الوطن ويصر على الإقصاء لرموز وشخصيات لم يثبت فى حقها أى فساد أو الإتيان بجريمة يعاقب عليها القانون، بل لمجرد انها كانت تعمل فى مناصب رسمية فى النظام السابق. 

وبهذا الحكم الدستورى التاريخى أصبح خوض الفريق شفيق جولة الإعادة بعيدا عن أي شبهة دستورية، وبهذا الحكم أيضا ستتم الجولة الثانية من الإنتخابات الرئاسية بعيدا عن أى تشكيك دستوري كما كان الحال فى الأشهر القليلة الماضية التى شهدت كمّا هائلا من التفسيرات القائمة على التشكيك فى نزاهة لجنة الإنتخابات الرئاسية نفسها، والتهوين من قيمتها القضائية واعتبارها مجرد لجنة إدارية تشكل من مجموعة من القضاة ولابد من الطعن فى قراراتها بدلا من تحصينها من النزاعات القانونية كما هو الحال فى الإعلان الدستورى المعمول به.

 

وكانت الصدمة!
صدور الحكمين الدستوريين بحل البرلمان وعدم دستورية ما يعرف بقانون العزل فى جلسة واحدة مثل صدمة لأعضاء البرلمان وخاصة من حزب الحرية والعدالة والنور السلفى وحزب الوسط وحزب البناء والتنمية الذى شكله أعضاء جماعة الجهاد بعد توبتهم عن ممارسة العنف قبل عقد من الزمن.

فى المقابل، رحبت قوى حزبية وشخصيات عامة محسوبة على التيار الليبرالى المدنى بحل البرلمان نظرا لما كان يشكله من خطر على هوية الدولة المدنية، وما اقترفه من أخطاء بالغة كشفت عن سعي جماعة الاخوان المسلمين مع حزب النور السلفى إلى الهيمنة على العملية التشريعية وعلى تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور وبما يتناقض مع مبدأ التوافق الوطنى الذي لا غنى عنه بالنسبة لصياغة دستور قابل للحياة لمدة عقود طويلة وليس أشهر معدودة.

كان الخطأ الاكبر الذى مارسه البرلمان المنحل يكمن فى استغلال الأغلبية العددية لأحزاب الإسلام السياسى لإصدار تشريعات ليست محل اهتمام المواطنين، ناهيك عن التمسك بتشكيل الجمعية التأسيسية للدستور وفقا لقاعدة الاغلبية وليس بناء على قاعدة التوافق الوطنى، مما أدى إلى تباعد كبير بين جماعة الاخوان والنور السلفى عن باقي الأحزاب المدنية بشكل عام، ولا يقف مع  جماعة الاخوان ومرشحها الرئاسى إعلاميا إلا حركة 6 أبريل وعدد من منظمات شبابية تعتبر أن معركتها الأولى والأخيرة هى إسقاط الفريق شفيق، ولا يهم بعد ذلك إيديولوجية الإخوان المسلمين ونزوعهم إلى تديين المجال العام وتطبيق واضح لقاعدة المغالبة واستبعاد مبدأ المشاركة.

 

الجماعة لا تريد الصدام
ومن هنا جاءت الصدمة للكثيرين، فقد حل البرلمان واستمر الفريق شفيق فى الإنتخابات الرئاسية، وباتت مصر على اعتبار بداية مرحلة انتقالية جديدة ولكن تحت قيادة رئيس مدنى منتخب، كل صلاحياته المعروفة ما جاء فى الإعلان الدستورى لاسيما المادتان 58 و59 اللتان تحددان صلاحيات الرئيس، بينما تعثرت عملية صياغة دستور جديد بسبب فشل البرلمان المنحل فى تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور.

مسألة وجود رئيس لديه صلاحيات محدودة ولا تنص على تنظيم علاقاته مع الجهاز التنفيذي المتمثل فى الحكومة أو البرلمان بعد انتخابه، دفعت إلى طرح اجتهادات عدة؛ أولها إعلان دستوري تكميلى يُصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة يسد الكثير من الثغرات الدستورية والقانونية فى علاقة الرئيس بالسلطة التشريعية تحديدا. وثانيها استعادة العمل بدستور 1971 الذي عُطل بقرار من المجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم 19 فبراير 2011، حيث يُوقف قرار التعطيل ويُستعاد العمل بالدستور بعد إضافة المواد التى تم الإستفتاء عليها والتي من شأنها أن تحد نسبيا من سلطات الرئيس.

أنصار الرأى الثانى يرون أن وجود دستور متكامل يحدد أدوار المؤسسات المختلفة بما فى ذلك طبيعة دور القوات المسلحة كما هو وارد فى المواد 181 إلى 183، أفضل من أن يُترك الأمر لوضع دستور جديد قد يفتح أبواب الجحيم. بيد ان الأمانة تقتضى الإشارة إلى أن البديل الثانى يُعدّ مكروها سياسيا ومعنويا، نظرا لارتباط هذا الدستور بعهد الرئيس المخلوع مبارك.

على المستوى السياسي، تحركت مجموعات من الشباب الرافضين وجود الفريق شفيق فى المنافسة الإنتخابية، ودعت إلى تجمعات ومظاهرات بدت الآن عصية على التحقيق فى صورة مليونيات وحشود كبيرة، وفى أفضل الأحوال بضع آلاف من الرافضين.

والظاهر الآن أن جماعة الاخوان المسلمين قررت قبول حكم المحكمة الدستورية بحل البرلمان، ورفضت الإستجابة للدعوات التى وُجّهت إليها للإنسحاب من الإستحقاق الرئاسي والعودة مرة أخرى إلى الميدان مع منظمات الشباب وائتلافات الثورة العديدة، وهو رفض يعكس التمني فى أن ينال مرشح الاخوان د. محمد مرسى شرف الرئاسة، وبذلك تظل إمكانية فرض الرأى مسألة ممكنة. ومثل هذه الحسابات السياسية الدقيقة تؤكد أن الجماعة لا تريد صداما قد يكون ثمنه غاليا على الجميع.

 

عن Admin

اترك تعليقاً