المعاندين للشرع

المعاندين للشرع

للإمام الشاطبي رحمه الله تعالى

الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان، لأن الله تعالى قال فيها: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ﴾ .
وفي حديث العرباض بن سارية قال: « وعَظَنا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – موعِظةً بَليغةً، ذَرَفتْ منها العيون، ووَجِلت منها القلوبُ، فقالَ رجل: يا رسولَ الله، كأنَّ هذه موعظةُ مودِّعٍ، فماذا تَعْهدُ إلينا ؟ قال: « تركتُكُم على البيضاء؛ ليلُها كنهارها، ولا يزيغُ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي … » الحديث.
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يُحتاج إليه في أمر الدين والدنيا، وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة.
فإذا كان كذلك؛ فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حالة أو مقالة: إن الشريعة لم تتم، وأنه بقي منها أشياء يجبُ أو يستحبُّ استدراكها، لأنه لو كان معتقداً لكمالها وتمامها من كل وجه، لم يبتدع ولا استدرك عليها، وقائل هذا ضالٌّ عن الصراط المستقيم.
قال ابن الماجشون: سمعت مالكاً يقول: « مَن ابْتَدَعَ في الإِسلام بدعة يَراها حَسَنة؛ فَقَدْ زَعَمَ أَن مُحمّدا – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- خانَ الرّسالةَ؛ لأَن اللهَ يقولُ: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ فما لَم يَكُنْ يَوْمَئذ دينا فَلا يكُونُ اليَوْمَ دينا ».
فالمبتدع معاندٌ للشَّرع، ومشاقٌّ له؛ لأن الشارع قد عيَّن لمطالب العبد طرقاً خاصة على وجوه خاصة، وقصَرَ الخلق عليها بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، وأخبر أن الخير فيها، وأن الشّر في تعديها إلى غيرها، لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، وأنه إنما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين. فالمبتدع رادٌّ لهذا كله؛ فإنه يزعم أن ثمَّ طرقاً أُخر، ليس ما حصره الشارع بمحصور، ولا ما عيّنه بمتعيّن، كأن الشارع يعلم، ونحن أيضاً نعلم. بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع، أنه علم ما لم يعلمه الشارع، وهذا إن كان مقصوداً للمبتدع؛ فهو كفر بالشريعة والشارع، وإن كان غير مقصود فهو ضلال مبين .
وإلى هذا المعنى أشار عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، إذ كتب له عدي بن أرطأة يستشيره في بعض القدرية؟ فكتب إليه :
« أما بعد؛ فإني أوصيك يتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدث الْمُحْدِثون فيما قد جرت سنّته وكُفُوا مؤنَتَه.
فعليك بلزوم السنة؛ فإن السنة إنما سنَّها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمّق.
فارْضَ لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ قد كفوا، وهم كانوا على كشف الأمور أقوى، وبفضلٍ كانوا فيه أحرى. فلئن كان الهدى ما أنتم عليه، لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم: أمرٌ حدث بعدهم: ما أحدثه بعدهم إلا من اتبع غير سننهم، ورغب بنفسه عنهم.
إنهم لهم السابقون، فقد تكلموا منه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم مُقَصِّر، وما فوقهم مُحَسِّر، لقد قصر عنهم آخرون فجفَوْا، وطمح عنهم آخرون فغَلَوا، وأنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم ».
ثم ختم الكتاب بحكم مسألته .
فقوله: “فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها”؛ فهو مقصود الاستشهاد.
وكذلك فإن المبتدع قد نزَّل نفسه منزلة المضاهي للشارع؛ لأن الشارع وضع الشرائع وألزم الخلق الجري على سننها، وصار هو المنفرد بذلك؛ لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون، وإلا؛ فلو كان التشريع من مدرَكَاتِ الخلق؛ لم تزل الشرائع، ولم يبق الخلاف بين الناس، ولا احتيج إلى بعث الرسل عليهم السلام.
هذا الذي ابتدع في دين الله قد صيَّر نفسه نظيراً ومضاهياً حيث شرع مع الشارع، وفتح للاختلاف باباً، ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع وكفى بذلك شراً.

عن marsad

اترك تعليقاً