أ. حلمي القاعود

حديث المصالحة وجهات الاختصاص

أ. حلمي القاعود
أ. حلمي القاعود

حديث المصالحة وجهات الاختصاص

بقلم: أ. د. حلمي القاعود

من حين لآخر يدور كلام حول مبادرة للمصالحة بين العسكر وتحالف الشرعية، ويستمر الكلام لبعض الوقت ثم ينقطع، وبعد حين تظهر مبادرة أخرى، ثم تندثر وتلحق بما سبقها، وهكذا.

وهناك من يطلب هدنة توقف التظاهرات والاحتجاجات لبعض الوقت لعل وعسى يقبل العسكر بوقف القتل اليومي في الشوارع وداخل الحرم الجامعي.

عندما تسأل عن مصير المبادرات يقال إنها سُلّمت للأطراف، ولكن الطرف العسكري لم يرد، أو لم يبال بالأمر أساسا.

هناك من يقول: ماذا بعد المظاهرات والاحتجاجات؟ كل بوم يسقط قتلى وجرحى دون تحقيق نتائج تذكر، فالطرف العسكري كأنه لا يسمع ولا يرى، وأبواقه الإعلامية هي التي تتكلم يوميا وتملأ الآفاق بالدعايات الرخيصة الكاذبة وتخترع الحكايات الخرافية عن تنظيمات وعمليات وأسلحة ومتفجرات بحوزة المتظاهرين السلميين، وتقوم أذرع الانقلاب التنفيذية بالحكم بالموت على المئات والسجن على الآلاف، وتطارد كل من تشتم فيه رائحة رفض للانقلاب أو تأييد للشرعية، لدرجة أن الانقلاب وأتباعه يقومون بتصفية كل من لا يعلن بالصوت العالي تأييده القوي للعسكر وحكمهم الأبدي في الوزارات والمؤسسات والمصالح الحكومية بتهمة الأخونة، وتصل التصفية إلى مجالات لا يفكر أحد أنها تؤثر على الانقلاب الدموي أو تقلل من جرائمه، ولعل إقالة شيخ القراء المصريين أحمد المعصراوي بمعرفة وزير الأوقاف الانقلابي الذي يحركه ضباط الأمن والمخابرات كان أحدث حلقة في سلسلة التصفيات. مع أن الرجل لم يتكلم ولم ينطق بشيء عن الانقلاب والانقلابيين!

يفترض في الحكومات المتحضرة التي تحرص على مصلحة شعوبها أن تنظر كيف تحقق هذه المصلحة بالتوافق والتفاهم والتعاون، ولكن جماعة الانقلاب تحركت منذ البداية بمفهوم أن المصريين ليسوا شعبا واحدا بل شعبين لكل منهما رب يعبده. شعب الانقلاب الذي يملك السلاح والنفوذ والقول الفصل والامتيازات، وشعب العزّل الذين لا يملكون إلا قيم البحث عن الكرامة والحرية والديمقراطية وحب المعرفة.

الشعب الثاني بالمفهوم العنصري الفاشي للشعب الأول ليس من حقه أن يعترض على شيء، ومن واجبه أن يقبل بالعبودية المطلقة لقادة الانقلاب، وإلا فالموت ينتظره بالعشرات والمئات والآلاف في دار الحرس الجمهوري والمنصة ورابعة العدوية وميدان النهضة ورمسيس ومسجد الفتح وجامع القائد إبراهيم وبقية المحافظات والمدن والقرى، ومن لم يمت في الميادين يحكم عليه القضاء الانقلابي بالإعدام في محاكمات هزلية ملفقة، أو يموت في المعتقلات بالتعذيب أو القهر وتموت معه أسرته أو من يرعاهم فقرا وكمدا وبؤسا.

ومن هذا المنطلق فالشعب الثاني يعرف مصيره جيدا بالسيف أو التصفية المعنوية، وهو ما يجعل الانقلاب يصم أذنيه ويغلق عينيه عن أية مبادرة حتى لو كانت في جانبه تماما.

كان الانقلابيون يظنون وفقا لتصورات العرّاب ان المسألة لن تستغرق أسبوعا وستقضي العصا الغليظة للانقلاب على أية مقاومة، ولكن النتيجة كانت فاجعة، فقد دخلت المقاومة شهرها العاشر، والرئيس المختطف لم يستسلم والمعتقلون صامدون والمظاهرات مستمرة مع ارتفاع عدد الشهداء والمصابين والأسرى، وهو ما جعل السلطة الانقلابية تفشل فشلا ذريعا في إدارة الدولة، وجعل الناس لا ترى وجودا حقيقيا للحكومة الطبيعية، ثم إن انهيار الاقتصاد يتزايد يوميا، وارتفاع الأسعار يخنق أغلبية الشعب، ومطالب العمال والموظفين لا تتحقق. معنى ذلك أن الانقلاب مع الدعم الخليجي والصهيوني يواجه مأزقا قاتلا، ولكنه يكابر ويعاند ظنا أن العصا الغليظة ستحل مشكلاته، ولأنه في الوقت نفسه لا يستطيع أن يتخذ موقفا لقبول المصالحة، لأن جهات الاختصاص لا توافق عليها. ويجب أن نعترف أن هناك ثلاث جهات أساسية للاختصاص، يمكن التذكير بها في إيجاز سريع.

الجهة الأولى آل سعود ومعهم آل زايد، وهؤلاء يخشون الثورة أو الربيع العربي، لأن وصوله إلى الرياض أو أبوظبي سيطيح بالبنى الاستبدادية العريقة، وسيحولها إلى أطلال لحساب بنى إسلامية حقيقية تأمر بالمعروف ممثلا في العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وتنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي. النموذج الإسلامي الذي تقدمه الثورة مهما كانت عيوبه سيكون مزعجا لمن تعودوا أنهم يملكون الأرض ومن عليها وما في جوفها، وأن البشر فوقها مجرد عبيد الإحسانات وهي غير الإحسان الذي يقصده القرآن الكريم.

آل سعود وآل زايد ينفقون الثروة التي منحهم الله إياها لمحاربة دين الله وقتل الأبرياء ونصرة أعداء الإسلام. (تأمل مثلا دعم الإمارات لفرنسا بالملايين لقتل الشعب المالي ومنعه من الحكم الإسلامي) لذا لن يقبلوا المصالحة أبدا ما لم يأمرهم السادة في واشنطن.

الجهة الثانية الكنيسة المصرية، وهي أقوى الجهات الثلاث من الناحية المعنوية، وموقفها من رفض الإسلام في الحكم واضح. وكان تأييد شنودة لمبارك حتى سقوطه ومنعه للنصارى من المشاركة في مظاهرات يناير مع بقية الشعب معلنا ومعروفا، ثم كان توجيه الكنائس لرفض الإعلان الدستوري في 19/3/2011 لأنه من وجهة نظرها يؤكد إسلامية الدولة، وعند مجيء تواضروس كان رفضه اللجنة التأسيسية للدستور فجا ومتعجرفا؛ فقد أعلن أنه لن يوافق على تنصيبه إلا بعد أن ينسحب منها الأعضاء النصارى والموالين من العلمانيين الذين يحملون أسماء إسلامية، وقد تم له ما أراد. وبعد تنصيبه تحركت أذرعه الإعلامية للمشاركة في الحملة المجرمة على الرئيس المختطف والتمهيد للانقلاب الذي شارك فيه في مشهد يشبه مشهد إسقاط غرناطة آخر مدن الأندلس!

الكنيسة لا تحارب الإخوان ولكنها تحارب الإسلام في مصر على النحو الذي فصلته في كتبي ومقالاتي العديدة، وقد صارت بعد الانقلاب – مدعومة من الغرب – هي الحاكم الفعلي لمصر، وتأمل تصريحات كثير من وزراء الانقلاب المتملقة لتواضروس والكنيسة. لذا لن تسمح الكنيسة بالمصالحة مع شعب مصر المسلم.

الجهة الثالثة والأخيرة هي الكيان الصهيوني الذي صرح زعماؤه أنهم ينامون جيدا بعد سقوط الرئيس مرسي، وحديثهم العلني لا يتوقف عن علاقتهم الوثيقة وتعاونهم المستمر مع قادة الانقلاب وخاصة في تشديد الحصار على قطاع غزة وخنقه، ومنع الولايات المتحدة من التعامل مع جريمة العسكر على أنها انقلاب، ودعوتهم لها باستمرار المساعدات المالية والعسكرية للانقلابيين.

الجهات الثلاث هي جهات الاختصاص في مسألة المصالحة، فهل يمكن عرض المبادرات عليها، أو تكون المبادرة الحقيقية الفعالة من خلال حركة الشارع المصري؟

عن Admin

اترك تعليقاً