هل يمكن محاكمة الطواغيت محاكمة عادلة؟..

مبارك والأسد والعقاب

هل يمكن محاكمة الطواغيت محاكمة عادلة؟
..
نبيل شبيب

لو اقتصرت جرائم مبارك على اغتيال “اللغة العربية الفصحى” فقط، لكان قليلا عليه معاقبته بالحكم المؤبد، وهو الحكم الذي صدر على لسان قاضٍ كبير بمنصبه، ولكنه غير قادر -وهو ينطق الحكم يوم 2/6/2012م- على النطق بجملة واحدة بالعربية الفصحى دون عدة أخطاء لغوية ونحوية..
ولكن جريمة اغتيال الفصحى في بلد الأزهر عبر سياسات مبارك وأسلافه، هي جريمة واحدة فقط من عدد لا يحصى من الجرائم بحق الإنسان وبحق الوطن وبحق التاريخ الحضاري لهذه الأمّة.
إنّ ما شهدناه ونشهده أثناء ثورات الربيع العربي، من استباحة للأرواح والكرامات والممتلكات، ومن صلف وغرور وتجبّر، يثير الغضب والإدانة وردود الفعل، بعد أن أصبح علنيا استعراضيا ثابتا بالصوت والصورة، لا ينكره إلا شريك في الجريمة امتهن الكذب والتضليل، أو متواطئ لا يعرف للإنسان والأوطان قيمة، ولا يهمّه أصلا أن يُصنّف في حلف الاستكبار وحزب الشيطان. ولكنّ هؤلاء الذي أسقطتهم -وتسقطهم- الثورات العربية طاغوتا صغيرا بعد طاغوت، قضوا عشرات السنين من فترات تسلّطهم، وهم يدمّرون جميع ما بقي من منجزات تحققت عبر قرون وقرون في صناعة الإنسان والأوطان.
. . .

كثير من الشرفاء الذين يعايشون ما يجري في سورية ومن قبل بأشكال أخرى في مصر وتونس واليمن وليبيا وعيرها، لا يستطيعون أن يستوعبوا ويصدّقو لولا ما يرونه بأمّ أعينهم، كيف تتمّ “برمجة” تلك الخلائق الهمجية لترتكب ما تركبه من جرائم، كأن تعذّب البشر من الأحياء الأبرياء وتنحرهم، أطفالا ونساء ورجالا وشيوخا!..
كثير من الشرفاء لا يستطيعون وهم يعايشون ما يعايشون أن يتقبّلوا أن يكون مصير الطواغيت أولئك المسؤولين عن “برمجة” أولئك الخلائق وتشغيلهم، هو مجرّد القتل أو الإعدام مرة واحدة، أو مجرّد العزل والنفي، ناهيك عن التأكيد المتكرّر على محاكمتهم عبر أجهزة قضائية مستقلّة يلتزم قضاتها بما تفرضه العدالة من مقارنة الشهادات والوثائق والأدلّة، وبما تنصّ عليه القوانين، وهم يعلمون كيف أحرق ما أحرق وأتلف ما أتلف من وثائق الإدانة، فلم يبق منها -كما في حالة مبارك ورهطه- إلاّ القليل!..
كثير من الشرفاء لا يريدون أن يكون مصير مبارك في مصر نموذجا لما سيكون عليه مصير الأسد في سورية وهو وريث الآثام والموغل في ارتكاب المزيد منها، بهمجية لا مثيل لها!..
إن جريمة الطاغوت الصغير في سورية لا تقتصر على ما أصاب عشرات الألوف من شعب سورية خلال ثورتهم البطولية، من قتل وتعذيب وإصابة بالعاهات وتشريد.. فهذا ما يظهر للعيان أثناء الثورة، ويثير السخط والغضب لعلنيته الاستعراضية، إنّما جريمة الأسد -كأمثاله من صغار الطواغيت المعاصرين- هي مسلسل يمتدّ عبر السنين، ليشمل اغتيال الإنسان والقيم، والوطن وثرواته، والدولة وحضارتها، اغتيالا ممنهجا، كالبرمجة الممنهجة لذلك الفريق من “البشر” ممّن قبلوا لأنفسهم التحوّل إلى أدوات همجية لتنفيذ الجرائم اليومية.
صحيح أنّ من يتحدّثون باسم الثورة والثوار لا يملّون من ترداد الحرص على تأمين محاكمة عادلة نزيهة شفافة للمجرمين، ولكن مهما صنعوا في بناء دولة الثورة، فلن يستطيعوا الوصول عبر تلك المحاكمة إلى حكم “عادل” ينال المجرمون من خلاله ما يستحقّون!..
سيان هل يصدر الحكم على الطاغوت الصغير ورهطه في سورية عبر محاكمة عادلة، بالإعدام أو السجن المؤبّد مع الأعمال الشاقة أو بالنفي أو بأيّ مرتبة من المراتب التي تصوغها قوانين العقوبات، فإنّه لن يصل قطعا إلى جزء من مليون جزء ممّا يستحقه المسؤول عن قتل الأطفال من قبل حمزة الخطيب إلى ما بعد “مشاعل النصر” من أطفال الحولة، والمسؤول عن قتل الفتيات والنساء من الحرائر وهنّ أحياء بالعدوان الآثم عليهنّ، والمسؤول عن قتل الرجال بإهانة كرامتهم في الشوارع علنا، وبالتفنّن في قهرهم عبر إكراههم على رؤية ما يُصنع بأهليهم وأعراضهم، والمسؤول عن دفن البشر أحياء ينزفون، وتحت الأنقاض يتأوّهون، فضلا عن أنّه المسؤول عن متابعة الجريمة الموروثة المتواصلة، بصناعة الردّة الكبرى في أنحاء سورية، طعنا فيما عرفته من القيم الحضارية والإنسانية، عبر ألوف السنين، وتقويضا لما سجّله تاريخها من منجزات حضارية عبر ألوف السنين، وتفكيكا للعرى الوثيقة التي ربطت بين مكوّنات شعبها وصهرته في مجتمع واحد، على تعدّد انتماءاته ومعتقداته ورؤاه..
هل يكفي إزاء ذلك كلّه إعدام أو سجن أو نفي أو أي حكم “قضائي” آخر ممّا تعرفه المحاكمات العادلة؟..
. .

إنّ الثورة الشعبية في سورية التي وصلت إلى توحيد نداءات الثوار من أقصى البلاد إلى أقصاها على “الله أكبر”، “هي للّه”، قادرة -رغم كلّ ما سبق ذكره- على إيقاع العقوبة التي يستحقها الطاغوت الصغير ورهطه، فالعدل المطلق هو ما يجمع بين الحياة الدنيا والآخرة، وكلّ عقاب عادل يفلت منه أيّ مجرم من المجرمين في الحياة الدنيا، لا بدّ أن يلقاه في الآخرة، لدى الملك الديّان الذي قد يعفو إن شاء على تقصير في حقوق الله عز وجل، ولكن أنزل في كتابٍ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أنّه لا يضيع حقوق أحد من خلقه.
الشهداء والمعذبون لا تضيع حقوقهم التي اغتيلت في الحياة الدنيا بل يجدونها في نعيم مقيم في جنة عرضها السماوات والأرض..
والمجرمون الآثمون لا ينجون من عقاب لا تستطيع محاكمة مهما كانت عادلة أن توقعه بهم، بل يجدونه في عذاب مقيم في جهنّم وزفيرها..
{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّـهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴿٤٦﴾ فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّـهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُۗ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ﴿٤٧﴾ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُۖ وَبَرَزُوا لِلَّـهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴿٤٨﴾وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ﴿٤٩﴾ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴿٥٠﴾ لِيَجْزِيَ اللَّـهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْۚ إِنَّ اللَّـهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴿٥١﴾ هَـٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴿٥٢﴾} -سورة إبراهيم-

عن marsad

اترك تعليقاً