أصحاب الأخدود .. والثورة المصرية

أصحاب الأخدود .. والثورة المصرية

د . رقية رفاعي سرور

أيقونة مفعمة بالحياة لفتى لا يذهب للموت بنفسه بل يستدعيه ليأتي إليه ، فيأتي مع موته حياة لقلوب الناس وإيماناً ينقشع معه حكم طاغية تأله على الناس وطغا عليهم وعلمهم عبادته..
صورة مليئة بالعبر للراهب الهرم الذي كان علمه يمشي على الأرض في صدر الفتى وليس رسماً في الكتب ينطوي بانطواء صفحاتها ..
علم أسقط النظام وأخرج من صدور الناس مخاوفهم لتتجسد أمامهم في أخدود النار الذي أحرقوه هم بانتصارهم عليه عندما أقبلوا يلقون بأنفسهم فيه في مشهد مهيب يقلب موازين غرائز حب البقاء ..
لا أدري في الحقيقة من هو بطل القصة ، أهو الفتى أم الراهب أم جموع الناس التي آمنت في لحظة واحدة وقد ولد إيمانها عملاق جداً زلزل أرجاء السلطة الظالمة وجعل من قصتهم حكاية قرآنية ..
كتب الشيخ رفاعي سرور ” أصحاب الأخدود ” وكان في عمر فتى القصة ، وكان يعيش لهذه القضية .. أن يخرج العلم من الكتب إلى الصدور ومنه إلى طريق الناس فيفتح لهم باباً إلى التوحيد ويحرك شيئاً في معاشهم يجعلهم يثورون يتغيرون ويغيرون حتى لو باتوا يُقتلون ويُعذبون ، حين التمس أبي العلم عند أربابه في ذلك الوقت وجد أن بعضهم لا يود الخروج به من محراب التعلم ، فلم يكتموه ولكنهم حبسوه في أبواب لا تعني الحاكم ولا تستفزه ، حاربوا الأضرحة ولكنهم جعلوا من الدين نفسه ضريحاً كبيراً يلتفون أمامه وخلفه وقد أنسوا وتباركوا به ولكنهم تغافلوا عن جوهره في إفراد التوحيد في كل مناحي الحياة وأهمها توحيد الحاكمية ..
أضاعوا القرن الماضي كله في ” مخارج الحروف ” فقط ، وسطوة الظلم تعصر بالخلق ، وشرك الحاكمية ينمو في قلوب الناس ، أنا ربكم الأعلى .. لم يقلها أي حاكم  ظالم بل جعل الناس تؤمن بها  ويسلموا لها .. فامتلك الأرض ثم جعل لمن عصاه نار في الحبس والتنكيل والتعذيب لعشرات السنوات فاكتسب لنفسه مقاماً للألوهية في قلوب الخائفين ، وجعل لمن عبده جنة العطايا والهبات فنال من قلوبهم ألوهية المحبة والوله ، فكانت فتنة هؤلاء الحكام على الناس عظيمة ..
وتعمد الإفساد حتى طال نهر الجنة وأرض الخير التي أطعمت العالم ، فسمعنا عمن يبيع كبده وطفله ومن هرب من ذلك ببيع ضميره وشرفه ..
وأصحاب العلم الساكتون قد نطقوا.. ولكن ليحذروا الناس من الخروج على الحاكم  _ أي حاكم _ وهو يعصف بالإسلام وبإخوانهم ..
كتب ” أصحاب الأخدود ” ليكون صرخة في وجه هؤلاء العلماء الساكتين عندما أظهرت دور الراهب وهو ” راهب ” ولكنه غير وجه البلدة وديَنها وعبدها لربها ، وأظهرت أصحاب الأخدود للنصارى أن مخلص الناس لا يشترط بالضرورة  أن يكون من أقارب الدرجة الأولى للإله ولكنه إنسان يحمل من الإيمان ومن التوكل .. وهذه هي شريعة التوحيد ..
كتب أصحاب الأخدود ليكون نذيراً للحاكم الظالم بأن للناس هبَة لن يملك معها إلا الركوع ، وتلك الهبَة إنما هي نابعة من إيمان يزكيه العلم في البداية ويفجره في قلوب الخلق روح الشهادة والفداء في النهاية ..
في مشهد مهيب حيث يجتمع أهل المدينة ويصلب الفتى البطل ثم يرميه أعوان الملك قائلين بسم الله رب الغلام _ كما علمهم الغلام _ حتى يتمكنوا من قتله ، صياح الناس يعلوا ، قلوبهم تنخلع من إقدام الشاب الصغير ومن إسم الله الذي زاد المشهد هيبة وعظمة ، نفسها تلك اللحظات التي عشناها حين أقدم الشاب السكندري في يناير الماضي فاتحاً ذراعيه وصدره للضباط وكأن لسان حاله يقول : قولوا بسم الله واقتلوني حتى يستفيق قومي .. فقتلوه ، وشاء الله أن يسجل ذلك المشهد من إحدى الشرفات عندها تفجرت مشاعر الناس ودموعهم ، واستمر وقود الثورة بدماء هؤلاء الأبطال فتكرر المشهد في القاهرة عندما استوقف شاب مدرعة ضخمة جداً بذراعيه النحيلتين لتقتله فيمنعها من الباقين وغيرها من المواقف الكثيرة ممن لم يرصدهم التصوير ..
أقول أن هؤلاء الشباب لم يحركهم سوى رسالة التوحيد ، فالنفس أغلى من أن تبذل للعيش والحرية والكرامة الإنسانية ( فقط )، حيث أن بعد الموت لن يكون هناك عيش ولا شيء من ذلك ، ومن يذهب للموت برجليه لا يحركه إلا الإيمان بما بعد الموت ، ومن خرج يومها نصرة للمظلومين ورفعاً للفساد عن الحرث والنسل إنما كان ذلك أيضاً من رسالة التوحيد ..
فكما انتشر خبر الغلام  في قصة أصحاب الأخدود بشفاء الكفيف ورفع الحرج عن الناس بأن سلك لهم طريقاً سدته عنهم الدابة ، كان عمل الدعاة لراحة الناس ودفع الظلم والحرج فيه إعلان عن دعوتهم ورسالتهم وإشارة إلى الرحمة في شريعة التوحيد وهي وسيلتهم إلى الغاية التي هي لا إله إلا الله .. 
قرأت مقالاً مطولاً لدرجة ” الملل ” للإعلامي غسان بن جدو ومختصره أنه لا توجد فلسفة قامت عليها الثورات العربية فهي بذلك ليست ثورات ، وقام هو يفلسف سفك الدماء من سيده بشار ويبرره ويقول الرجل أنه لم ير مرجعية فلسفية للثورة في مصر مثلاُ إلا فتى عشريني يدعى وائل غنيم (!!)
الثورة في مصر يا غسان لها عشرات السنوات تنمو في أحضان المعتقلات وفي أروقة التعذيب وفي نقاشات ضباط الأمن والمخابرات ومفاوضات السجان للمسجون ، وفي الترغيب والترهيب ، وفي حرب الإعلام والتشويه ، تربت في أحضان المبتلين وكبرت عند صبر الصابرين ، ولكن عمل الخفاء _عند هؤلاء الدعاة _الذي لا تعرف أنت له فلسفة جعلك لا ترى إلا الشاب وائل غنيم ، فسل نفسك ومن حولك كيف ترجم المصريين أهداف ثورتهم في اختيار كل ما له طرح إسلامي في كل الانتخابات والاستفاءات التي تلت الثورة ، ورغم التزييف باستماته الذي كان له نصيب الخمسين في المائة نجح ذوي الرؤى الإسلامية في الدوائر التنفيذية والتشريعية والحاكمة ..
الثورة يا غسان مرجعها سورة البروج إن أردت لها مرجع وفلسفتها هي عالم رباني وروح الشهادة إن أردت لها فلسفة ، وغايتها هي رسالة التوحيد إن أردت لها غاية و وسيلتها قضاء مصالح الخلق لو كنت تدري ..
السلام عليك يا راهب القصة ، والسلام عليك يا صاحب ” أصحاب الأخدود ” اسأل الله أن تهنئا بجزاء العلماء العاملين الذين دأبوا على التربية والتعليم حتى يصبح التوحيد عياناً للأعين وحياة في واقع الناس ، حتى ولو اقترن ذاك بالبلاء والاضطهاد ..
أدعوكم لقراءة كتاب ” أصحاب الأخدود ” للشيخ رفاعي سرور  ..

عن marsad

اترك تعليقاً