العنزة والقرد فى الدستور الجديد

العنزة والقرد فى الدستور الجديد

الكاتب : محمد يوسف عدس

اشترى الرجل عنزةً حلوبًا لعلها تساعد زوجته المريضة على إرضاع مولودها الجديد، وبينما هو عائد إلى منزله رآه ثلاثة لصوص أعجبتهم العنزة فقرّروا الاستيلاء عليها بحيلة ذكيّة: وقف اللص الأول فى بداية الطريق، وقال له: كيف تسمح لنفسك وأنت العاقل الرّاشد أن تمشى فى الطريق ممسكًا بقرد فى يدك..؟! فقال الرجل مستنكرًا: ولكنها عنزة..! وفى منتصف الطريق جاء إليه اللص الثانى وهو يقرع طبلة فى يده ويردّدّ: الْعَبْ يا قرد.. ارْقص يا قرد.. ثم قال للرجل: قردك جميل جدًّا.. كم أنت محظوظ…! وانصرف إلى حال سبيله.. ولكن الرجل فى هذه المرة أخذ يعاود النظر إلى عنزته وقد بدأ الفأر يلعب فى صدره.. ويشعر بشيء من الشك فى عنزته.. فما إن اقترب من نهاية الطريق حتى فاجأه اللص الثالث، يقول له وهو يخرج حافظة نقوده من جيبه: بكم تبيع هذا القرد..؟ أنا معجب به وسأدفع لك كل ما تطلبه ثمنًا له..!

أخذ العَرَقُ يتصبّب غزيرًا من جبين الرجل المسكين، وقد تمكنت منه الحيرة والشكوك، فقال وهو يتلجلج: “ولكن هذه…”، وقبل أن يكمل جملته اقترب اللص من العنزة وأخذ يتحسس رأسها ويداعبها منتشيًا وهو يردد: يالك من قرد رائع.. يالك من قرد رائع..! سأشتريك بكل ما عندى من مال..

اضطرب عقل الرجل وفقد السيطرة على أفكاره وانهارت ثقته بنفسه، فلا يمكن أن يتفق ثلاثة بالصدفة المحضة على أن ما اشتراه من السوق كان قردًا وليس عنزة كما تصوّر.. كاد الشك أن يزلزل كيانه، فترك العنزة وفرّ هاربًا..!

فهل كانت العنزةُ عنزةً حقًّا..؟ أم أنها كانت قردًا كما أصرّ اللصوص على تسميتها..؟ أم أن فى الأمر خدعة ولها تفسير غير مفهوم..؟ أعتقد أن فى الأمر خدعة تنطلى على أكثر الناس الذين يعانون ما يسميه علماء النفس بـ”القابلية للاستهواء”، ويدرسون مجالات هذه القابلية عند أفراد البشر فى مختلف المستويات العُمْرية، كما يدرسونها على المستوى الاجتماعي، ويتتبعون آثارها فى تحريك الجماهير لخدمة أهداف وطموحات بعض الزعماء السياسيين، الذين يستغلون احتياجات الجماهير ورغبتها فى تحسين حياتها وأوضاعها المعيشية، فيصورون لهم أنهم يعرفون أيسر السبل إلى ذلك، وأنه ليس عليهم إلا أن يسلّموا قيادهم ويستسلموا لتوجيهاتهم…!

يحدّد علماء النفس القابلية للاستهواء، بأنها: تَقَبُّلُ وتصديق ما يقدِّمه الغير من معلومات أو أفكار، دون نقد أو تمحيص.. ويتميز صاحبها بحالة من الكسل العقلى إذ يكتفى بالتّلقّى متجنِّبًا عناء التفكير، كما يتميز بضعف الإرادة، حيث يستسلم بسهولة للأفكار الشائعة فى أوساط النخبة الأكثر نفوذًا وانتشارًا وأعلى صوتًا.. وهذه حالة لا بد أن تربك عقل الإنسان وتجعله عرضة للخطأ فى التفكير والتقدير. ولكنك ستجد دائمًا قلّةً من المفكرين -فى كل مجتمع- هم الأكثر استعصاء على الاستهواء.. تمرّسوا بفكر نقدي ومنطق قويّ، ولديهم قدرة متميزة على حشد الحقائق والأدلة وتحليلها ومقارنتها بعضها ببعض ونبذ المتناقض منها، والتثبت من صحتها بطريقة منهجية.. وعلى عاتق هؤلاء تقع مسئولية البيان والتنبيه والإنذار. هؤلاء لا يمكن أن يتخلّوْا عن رسالتهم، أو يتنصّلوا من واجبهم لأنهم إن فعلوا هذا يسقط المجتمع كله فى مستنقع الضلالات..

باختصار شديد مَثَلُ العنزة الحلوب كمَثَلِ الدستور الجديد الذى سيعرض على الشعب للاستفتاء عليه، بينما يسعى اللصوص الأفّاقون.. لا يهمّ إن كانوا ثلاثة أو ثلاثين أو ثلاثمائة.. فلهم جميعًا هدف واحد واضح محدّد هو تشويه الدستور، ليرى فيه الناس صورة القرد بشع الوجه.. وليحشدوا أكبر عدد من المضلّلين المشحونين بالكراهية والعداء ضده، وضد أنصاره والمدافعين عنه، ولا يأبهون أن يتطوّر هذا الشحن العدائى إلى اقتتال وإسالة دماء بريئة.. مطمئنين إلى أن وراءهم آلة إعلامية ضخمة، تستخدم صورًا مفبركة وتعلق عليها بأكاذيب وتحشد لها شهود زور من ترسانتها الدعائية المكتظة بمئات المنتفعين المضللين من أصحاب الهوى، وأصحاب الجرائم الذين يستميتون فى إخفاء جرائمهم عن أعين العدالة، وأصحاب المال المنهوب من طعام الشعب وثروته، ومن السياسيين المرعوبين من صناديق الانتخاب.

ولولا اطمئناهم لهذه الآلة الجهنميّة التى تمرّست بقلب الحقائق، والتعتيم على جرائم الحرق والقتل، وإبراز المجرمين فى صورة الضحايا، لكان لهم موقف آخر أكثر حذرًا وأقلّ تهوّرًا وتعَنُّتًا ضد شرعية الرئيس المنتخب، و ضد شرعية صندوق الانتخابات.. يتصورون بغبائهم أنهم يمكن أن يسقطوا الرئيس بالمظاهرات والعنف والأكاذيب، ويستطيعون أن يمنعوا الشعب من ممارسة حقه فى الاختيار الحر لدستوره.. فلما شعروا بقرب عملية الاستفتاء، بعد النجاح الساحق للحوار الوطنى الذى دعا إليه الرئيس والتزم بكل نتائجه بلا استثناء. وأن هناك إجراءات جادة لحماية وتأمين الاستفتاء على الدستور.. كشفوا عن أنيابهم وتوالت تهديداتهم الغوغائية بتهييج الشارع، إذ يعلنون بلا خجل أنهم لن يسمحوا بعرض الدستور للاستفتاء، وكأنهم سلطة فوق سلطة الشعب، وفوق سلطة رئيس الجمهورية.. فمن أين جاءوا بهذا الوهم! وكيف تسلّط على عقولهم..؟ هذه قضية أخرى يمكن إحالتها إلى علم النفس المرضى ليشرحها لنا..

دعنى أستعرض باختصار شديد خريطة مؤامرة متعددة الأطراف تستهدف القضاء على الثورة المصرية ووقف آثارها المتوقعة فى الداخل والخارج؛ مؤامرة أصبح أطرافها يعبرون عن أنفسهم باستعلاء وصلفٍ لم يعد خافيًا على أحد:

الطرف الأول- تراه فى تصريحات خلفان رئيس شرطة الإمارات، الذى يتوعد الثورة والسلطة والإخوان المسلمين جميعا بالويل والثبور.. هنا مركز القيادة ومصدر التمويل الأساسيّ..!

الثانى- الجنرال أحمد شفيق الهارب فى الإمارات – نقلًا عن جريدة الشرق الأوسط- يقول: إن المخرج الوحيد من الأزمة فى مصر، يتمثّل فى إنهاء حكم الرئيس محمد مرسى وجماعة الإخوان المسلمين [فى الحال]، وأنكر حديث الرئيس مرسى عن وجود جهات خارجية تدعم الفوضى فى مصر فقال: “لا يوجد أى إثباتات على صحته..!” لاحظ أن شفيق لا ينكر وجود مؤامرة ولكنه ينكر إثبات وجودها.. ويمكن الرد على غبائه ببساطة فأقول: هل هناك دليل إثبات على التآمر أقوى من وجودك فى مركز التوجيه والتمويل فى إمارات خلفان..؟! وهل هناك دليلٌ أقوى من تهديداتك وهجومك المتواصل.. على الشرعية المصرية؟!

الثالث- محمد البرادعى يعترف للفايناشيال تايمز: بأنه مع جبهة إنقاذه والثوريين –فى زعمه- اضطروا للتحالف مع فلول النظام المخلوع من أجل التصدى للأحزاب الإسلامية. ويزعم -كاذبًا- أن مصر الآن منقسمة بين فريقين: الإسلاميون من جهة، وباقى الشعب من جهة أخرى، وكذبه واضح فالخصومة قائمة بين أحزاب إسلامية وبين أحزاب جبهة الإنقاذ ومعها حزب مبارك وفلوله، وليس هؤلاء هم بقية الشعب كما يزعم، أما حديثه عن احتمالات: تدخل الجيش، أو اندلاع ثورة الفقراء، أو حتى اندلاع حرب أهلية؛ فهو الذي يحلم ويحرّض على هذا ويدعو إلى العنف والصدام.. ولا يتحدث عن حلول سياسية سلمية.. ولا يتطرق إلى الحل الديمقراطي، بل ينتقد دور المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإفساد المرحلة الانتقالية.. تصوّر لماذا..؟ يقول البرادعى: لأنه سمح بإجراء انتخابات برلمانية أسفرت عن فوز الإسلاميين بأغلبية ساحقة.. ثم يفصح عما فى صدره من كراهية للديمقراطية أكثر عندما أثْنى على المحكمة الدستورية لأنها ألغت مجلس الشعب المنتخب، لأنه فى نظرته –الاستعلائية- لا يمثل الشعب المصري..

هذه هى الحقيقة الصارخة التى لا يجب أن تغيب عن الأذهان؛ فهؤلاء يكرهون الإسلاميين ويريدون استئصالهم من السياسة، إنها فى نظرهم قضية حياة أو موت، قضية وجودية لا سياسة فيها ولا ديمقراطية..!

الطرف الرابع- يمثله الكُتّاب والإعلاميون من أمثال- علاء الإسوانى الذى أسفر عن وجهه القبيح ونزعته الاستعلائية العنصرية، برفضه اسفتاء الشعب على الدستور لأنه شعب فقير وأمِّيّ، ومن ثم يدعو إلى استبعاد ٤٠% من الناخبين المصريين، ويشترط توقيع عقوبة الحبس لمن يشترى الأصوات بالزيت والسكر.. انظر إلى أى مدى يحتقر المصريين ويعيّرهم بالفقر والأمية، ويتهمهم بأن تأييدهم للإسلاميين لم يكن إلا نتيجة شراء أصوات بالزيت والسكر..ّ! الأسوانى لا يتحدث عن شراء البلطجية والهاربين من السجون والمسجلين “خطرًا”، إذا تم شراؤهم بالمال وتزويدهم بالأسلحة وتحريضهم على الاندساس فى المظاهرات لقتل الأبرياء وإشاعة الإرهاب والفوضى فى البلاد.. ولكنه يروّج لكذبة الزيت والسكر…!

هناك طرف خامس مستفيد من إشعال الفوضى والحرائق فى المجتمع، يتمثل فى عدد من القيادات المتطرفة فى الكنيسة الأرثوذكسية، لهم توجّهات خطيرة لن أخوض فيها الآن نظرًا لحساسية الموضوع.. وأقرّر أن لخريطة المؤامرة أبعاد أوسع ولها مراكز توجيه وتمويل أخرى تشمل إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، ولكنى أكتفى بهذه الخريطة المصغّرة لسهولة الاستيعاب والتفكير فى أساليب المواجهة الفاعلة.. وأنبّه إلى أن هذه الأطراف تجمعها مصالح متباينة ولكنها تشترك فى هدف واحد هو القضاء على الثورة وحصر امتداداتها وآثارها فى دول المنطقة، والثمن هو تمكين الأقلية المنبوذة من القفز إلى السلطة فوق صناديق الانتخاب…!

وأختم بكلمة سريعة أقولها للمخدوعين بشهرة علاء الأسواني؛ أقول عن يقين وخبرة طويلة مع البسطاء الذين يسخر من فقرهم وأميّتهم: إن هؤلاء البسطاء أكثر منه وعيًا، وأكثر حكمة ووطنية وبعد نظر.. فهو يعانى من نوع أخطر من الأمية الفكرية الإسلامية، يسترها فى أردية من شهرة مصطنعة، اقترنت بالهَوَى وسوء استخدام القدرات التى وهبها الله له فى التضليل وتزييف الحقائق على الناس

عن marsad

اترك تعليقاً