بين الفشل الفرنسي الحديث والفشل الأمريكي القديم في الصومال

بين الفشل الفرنسي الحديث والفشل الأمريكي القديم في الصومال

عبد الوهاب شيخ رشيد

ليست فرنسا الأولى التي فشلت في الصومال إستخباراتيا وعسكريا، فقد فشلت قبلها أمريكا عام 1993م عندما تدخلت في هذا البلد تحت العباءة الإنسانية بشعار “إعادة الأمل” ولم تشفعها الأعداد الكبيرة من القوات الأخرى القادمة من 30 دولة، وكانت مساهمة أمريكا وحدها في ذلك الغزو العسكري الملثم والمتعطش للثورات البترولية والمعدنية الصومالية الكبيرة بثلاثين ألف جندي إلى جانب قوات الدول الأخرى، ومع ذلك خرجت بأكبر خيبة أمل مع اليقين أنها لن تعود إلى الصومال عن طريق القوة مرة أخرى في حياتها المستقبلية إن كُتب لها حياة طويلة.
تكررت التجربة مع فرنسا وبخيبة أمل أكثر خذلانا وفضيحة وعارا حين حاولت فرقة من القوات الخاصة “كماندوز” الفرنسية تحرير رهينة كانت تحتجزه حركة الشباب منذ يوليو 2009م، وقد كان محظوظا أنها أبقته على قيد الحياة حتى هذا التوقيت على خلاف عادتها، فقد عُرفت الحركة بقطع رأس كل مخالف لها في الرأي يقع تحت أسرها وخاصة إذا كان أجنبيا، لكنها لم تقتله لحاجة في نفس يعقوب، فإذا هي الحكومة الفرنسية تعجل موته، بحكم أنه إذا افترضنا أنه مازال حيا حسب تصريحات مسؤولين في الحركة؛ فإنه ينتظر محاكمة عسكرية عاجلة في هذا اليوم الإثنين 14 يناير، ولا يتوقع أحد أن تبرء المحكمة العسكرية التابعة لحركة الشباب ضابط الاستخبارات الفرنسي، خاصة وأنها متخصصة في الانتقام لضباطها ومقاتليها الذين قتلتهم المروحيات الفرنسية في الغارة الأخيرة.
بعد حادثة الفشل الفرنسية سألتني بعض القنوات الإعلامية الغربية عن ما إذا كان الشارع الصومالي تعاطف أو أبدى أسفا من أجل الرهينة الفرنسية والقوات الخاصة الأخرى التي قتلت في العملية، فأجبتهم بكل اختصار أن العلاقة المبتورة بين الصومال حكومة وشعبا وبين فرنسا جعلت هذا الشعب لا يكترث ولا يبدي تأسفا للحادث المروع.
الفرنسي الذي وقع في أيدي حركة الشباب قبل 3 سنوات في مقديشو منتحلا للقب صحفي زائف، ونسيه المواطنون لعدم أهميته بالنسبة لهم وابتعدت فرنسا عن الصومال بعدا شبه كامل، ولم تكن حتى من الدول التي شاركت في إغاثة الشعب الصومالي أيام الجفاف الكبير في عام 2011م، فلو كانت بريطانيا مثلا التي استضافت مؤتمرا دوليا للصوماليين العام الماضي في لندن، وأقنعت صوماليلاند بالجلوس مع الجنوب بالحوار والمفاوضات مع تقليل فرص الاعتراف بها دوليا يوما بعد يوم، وزيارة أكثر من وزير ومسؤول بريطاني للعاصمة مقديشو في الشهور القليلة الماضية، وإعلان وزير خارجيتهم الأسبوع الماضي بعد استقباله لوزيرة الخارجية الصومالية في مكتبه بلندن بأن حكومته ستفتتح سفارتها في مقديشو قريبا، ثم الإعلان عن عقد مؤتمر للصوماليين في مايو القادم لاستكمال الوعود الاقتصادية التي قطعها المجتمع الدولي للصومال في المؤتمر السابق، لو كانت بريطانيا هي التي حلت بها الفاجعة ربما كان هناك الكثير من أبناء الشعب الصومالي الذي يسكب الدموع من أجل الرهينة ورفاق دربه الذين لقوا حتفهم أو وقعوا في الأسر، ولذلك يتوقع كثير من المراقبين أن تكون بريطانيا الصديق الأوربي الوحيد للشعب الصومالي في المستقبل المنظور – بعد تركيا طبعا التي يسميها الشعب الصومالي اليوم الأخ الشقيق للصومال بسبب المرتبة العالية التي احتلت بها في قلوب هذا الشعب، خاصة وأن إيطاليا فضلت الابتعاد عن الصومال وشأنه تدريجيا ربما تبعا لتقزيم وانكماش دورها أوربيا وعالميا، وعدم الثقة التي يشعر بها المواطنون تجاه أمريكا التي يعتقدون أنها تساهم في إضعاف الصومال لحساب دول الجوار، والمرارة التي يشعرون بها من الدعم المطلق الذي قدمته للجارة إثيوبيا إبان غزوها العسكري على الصومال في ديسمبر 2006م بحجة مطاردة الإسلاميين المتطرفين، ثم إن بريطانيا تستطيع جمع الشتات الصومالي، وتتمتع بقدر من المصداقية والأمانة مقارنة بإيطاليا الفاشيستية المنهارة اقتصاديا وسياسيا.
أما فرنسا التي نفذت العملية بصورة فيها قدر من التعالي والغطرسة في الساعة الثانية بعد منتصف الليل في قرية نائية بالريف الصومالي وكأنها ذاهبة حديقة في غرب إفريقيا لا يوجد فيها سوى بعض القرود المسالمة، ولا شك أن الكماندوز الفرنساويين سيروون ولو بعد حين القصة كاملة عن ما إذا كان في الحديقة ما توقعوه من المسالمين، نفذوها استنادا إلى معلومات استخباراتية غير دقيقة؛ بل مضللة ثم الهروب بعد ساعتين من القتال الشرس تحت جنح الليل والعودة إلى قواعدها في حاملات الطائرات بالمياه الإقليمية الصومالية في المحيط الهندي التي يمارسون فيها صيد السمك الجائر والتجريف وخلافه من الأنواع المحرمة دوليا، هربوا خشية إسقاط واحدة من المروحيات الخمسة التي نفذوا بها في العملية الفاشلة، وكأنه لم يحدث شيء أو أرادت فرنسا أن تختفي من الإعلام وأضوائه وفضائحه.
وفي مثل هذا العمل الشنيع لم يكن أحد ليتوقع تعاطفا شعبيا صوماليا كبيرا لفرنسا وخسارتها الكبيرة في تلك المعركة الفاضحة التي أفادت كثيرا حركة الشباب وأظهرتها في عيون الشعب الصومالي بالبطلة الوطنية المدافعة عن العرض والبيضة من اللصوص المتسللين تحت ظلام الليل، في وقت كان يمكن أن تساهم فيها بإضعافها وليس تقويتها وإنعاشها من جديد.
كان أمام فرنسا واحد من خيارين لا ثالث لهما:
1- التنسبق مع الحكومة الصومالية وتقويتها ومساعدتها في رفع حظر استيراد السلاح المفروض عليها من الأمم المتحدة منذ بداية التسعينيات، ومدها بالسلاح وتحسين تدريب أفراد الجيش وقوات الأمن الأخرى تدريبا جيدا حتى تستطيع أن تواصل الانتصارات التي حققتها مؤخرا ضد مقاتلي حركة الشباب الذين أخرجتهم من أهم المدن الصومالية ابتداء من مقديشو ومرورا بكسمايو شريان حياة اقتصاد الحركة سابقا وبيدوا وبلدوين ومركا وغيرها من المدن المهمة حتى يستسلم آخر مقاتل من الحركة ويُسلم أيضا الرهينة الفرنسية.
وهنا يظهر بصورة جلية أمر مهم وهو عدم اهتمام فرنسا بالحكومة الصومالية التي جاءت بالانتخابات الحرة والنزيهة، وأبدى العالم كله اهتماما كبيرا بها بسبب الرؤية الواضحة التي طرحتها لحل المشاكل الصومالية، ابتداء من إعادة الأمن والاستقرار إلى ربوع البلاد عن طريق بناء الجيش وقوات الأمن الأخرى واستئصال جذور القرصنة وبناء الاقتصاد الوطني ومحاربة الفساد والاهتمام بالوحدة الوطنية الطوعية أرضا وشعبا وإخراج الصومال من مرحلة الدولة الفاشلة إلى مرحلة التعافي والتعامل مع العالم على هذا الأساس والتعايش السلمي مع دول الجوار؛ لكسب ثقتها على الأقل، وتبديد هاجس الخوف الذي يعتريها من الصومال القوي المعافى، وهي الرؤية التي جعلت كثيرا من دول العالم تهنئ وتقدم الدعوات إلى القيادة الصومالية الجديدة بزيارة بلدانها للتباحث حول دعم الصومال الجديد بعد أن انتقل من المرحلة الانتقالية إلى مرحلة المؤسسات الدائمة – باسنثناء فرنسا –والأمر الباعث للأسف أنها لم تستأذن من الحكومة الصومالية للغزو على أراضيها بحجة تحرير رهينة فرنسية مخطوفة منذ سنوات، وانطلاقا من عدم اللياقة الدبلوماسية والفشل في إظهار أدنى درجات الاحترام يشك كثير من المحللين فيما إذا كانت ستغض الحكومة الصومالية الطرف عن مثل هذا الانتهاك الصارخ؛ بل يجب أن تتقدم بشكوى إلى مجلس الأمن ضدها، وينبغي تبعا لذلك أن تدفع فرنسا تعويضات مالية لأسر المقتولين والجرحى الأبرياء والأضرار المادية الأخرى التي تسبب بها عدوانهم الغاشم، وفي حال الفشل في تقديم الشكوى فلا شك أن الحكومة ستفقد قدرا من مصداقيتها في أوساط الشعب الصومالي.
2- الدخول في مفاوضات مغرية مع شيوخ القبائل، وهم الزعماء التقليديون الذين لهم كلمة نافذة في أوساط الشعب، ويتقرب إليهم قادة الحركة عند الحاجة لجمع المقاتلين تحت مسمى المجاهدين المتطوعين أو أخذ الزكوات والضرائب من أفراد الشعب، فعن طريقهم كان يمكن الوصول إلى نتائج جيدة.
فلما لم تتبع الحكومة الفرنسية واحدا من الخيارين أدت عمليتها إلى فشل استخباراتي وعسكري نادرا ما يحدث مثله لقوة كبيرة مثل فرنسا، والسؤال هنا هو: هل سيترك الشعب الفرنسي دون محاسبة حكومته الفاشلة التي ضحت بحياة عدد من مواطنيها العسكريين ناهيك عن تحرير مخطوف، فلا شك أن لهذه الحادثة سيكون لها ما بعدها إما من انفجار ربيع فرنسي يؤدي بحكومة الرئيس هولاند، أو على الأقل بانتخابات مبكرة تطيح أيضا في النهاية بالحكومة الفرنسية الحالية، وكلاهما أمر جيد تستحقه هذه الحكومة التي جلبت العار لفرنسا، وقتلت مواطنين صوماليين أبرياء في غارة همجية نتمنى أن تدفع ثمنها مستقبلا فرنسا ومن ساندها في الغارة.

عن marsad

اترك تعليقاً