مجازر بورما.. مسلمو أراكان في طي النسيان

مجازر بورما.. مسلمو أراكان في طي النسيان

دولة مسلمة من القرن السابع حتى احتلال البوذيين
– حملات مستمرة للتهجير وطمس الهوية الإسلامية
– مجزرة جديدة تفضح حقد النظام العسكري البوذي
– حرمان من أقل الحقوق وسحب للجنسية وحملات تهجير

تحقيق: أحمد جمال
:
“أعتذر لكم يا شعب أراكان المسلم أول مرة أعرف قصتكم”.. عبارة كتبها الكثير من النشطاء على صدر صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي بعد ورود أخبار وصور الانتهاكات الصارخة والقتل التي ترتكبها مجموعات بوذية بحق مسلمي بورما وتهجيرهم من إقليم أراكان ذو الأغلبية المسلمة.
يتعرض المسلمون الذين يعرفون باسم “الروهينغيا” لعمليات اضطهاد ممنهجة منذ سنوات من قبل السلطات في بورما والتي لا تعترف بهم وتعتبرهم مهاجرين غير شرعيين من بنجلاديش، بينما وصفتهم الأمم المتحدة بأنهم أكثر الأقليات تعرضًا للاضطهاد في العالم.
ويشهد إقليم “أراكان” تناميًا في أعمال العنف الطائفي واغتصاب المسلمات من قبل مجموعات بوذية تحت حماية قوات النظام الحاكم هناك أسفرت عن مقتل العشرات، وتشريد ما يزيد على 100 ألف بالإضافة إلى حملة الاعتقالات التي ينتهجها النظام الحاكم في بورما مع أهل الإقليم.
تقع جمهورية اتحاد ميانمار المعروفة باسم بورما بجنوب شرق آسيا، يسكن بها عدد من الديانات أغلبهم من البوذيين، بالإضافة إلى عدد من الأقليات، أكبرهم الأقلية المسلمة والتي تصل إلى 20% من إجمالي عدد السكان، يتركز غالبيتهم في إقليم أراكان شمالاً على حدود الهند، بالإضافة إلى وجود عدد منهم في العاصمة رانجون، ومدينة ماندلاي.
بالرغم من وجود المسلمين بأرض بورما منذ مئات السنين، وتحديدًا في القرن السابع الميلادي، إلا أنهم بدءوا في الهجرة من جديد بأعداد كبيرة في العقود الأخيرة إلى السعودية والإمارات وبنجلاديش وباكستان بسبب القتل الجماعي والاضطهاد الذي واجهوه من قبل البوذيين والحكومات الميانمارية المتعاقبة.
الاحتلال وبداية المأساة
وصل الإسلام إلى “أراكان” في القرن السابع الميلادي في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد, عن طريق تجار العرب حتى أصبحت دولة مستقلة حكمها 48 ملكًا مسلمًا على التوالي وذلك لأكثر من ثلاثة قرون ونصف القرن, حتى احتلالها عام 1784م من قبل الملك البوذي البورمي “بوداباي”، وضم الإقليم إلى بورما في محاولة لوقف تأثيره في المنطقة ومنع نشر الإسلام.
وترك المسلمون آثارًا إسلاميةً من مساجد ومدارس وأربطة منها مسجد بدر المقام ومسجد سندي خان الذي بني في عام 1430م وغيرها.
ويرجع أصل مسلمو “أراكان” لسلالات مسلمة من العرب والفرس والأتراك والمورو والهنود والبنغال والبشتون ومسلمون صينيون، استقروا بهذه الأرض وتزاوجوا مع المجموعات العرقية المحلية في بورما.
ومنذ احتلال أرض أراكان المسلمة مارست السلطة العسكرية البورمية المستبدة، كل أشكال الانتهاكات ضد مسلمي بورما؛ لدفعهم إلى ترك أراضيهم أو لتحويلهم عن دينهم، فكانت عمليات القتل والاغتصاب والتعذيب ومصادرة الأراضي تتم بشكل مُمنهج وبأقسى الصور.
ففى عام 1942م نفذ البوذيون الـ”ماج” مذبحة كبرى ضد مسلمي “أراكان” استشهد فيها أكثر من 100 ألف مسلم، وشهد الإقليم بين عامى 1962 و1991 عملية تهجير وصلت لـ1.5 مليون مسلم من أراضيهم إلى بنجلاديش وتم الدفع بأعداد من الـ”ماج” للعيش في الإقليم وتعيينهم حكامًا على المسلمين لمعاونة النظام البوذي.
عمليات التهجير تتم لأبسط الأسباب؛ إما لبناء قرى نموذجية يعيش فيها البوذيون أو لرفضهم السياسات التي تمارس ضدهم ففي عام 1991م تم طرد قرابة نصف المليون مسلم، عقب إلغاء نتائج الانتخابات العامة التي فازت فيها المعارضة بأغلبية ساحقة انتقامًا من المسلمين، لأنهم صوتوا مع عامة أهل البلاد لصالح الحزب المعارض.
ووصل التضييق على المسلمين لدرجة عدم السماح لأهل الإقليم بالتنقل من قراهم إلى القرى داخل الولاية دون تصريح مسبق، ومنعهم حتى من الزواج دون تصريح.
وبالرغم من المطالبات الدولية المستمرة للحكومة البورمية إلا أنها تصر على رفض الاعتراف بعرقية سكان أراكان المسلمة، بل واستبدلت إثباتاتهم الرسمية القديمة ببطاقات إقامة تفيد أنهم ليسوا مواطنين.
ففي عام 1982م أصدر النظام الحاكم قانونًا للجنسية يقسم المواطنين إلى مواطنين من الدرجة الأولى وهم الكارينون والشائيون والباهييون والصينيون والكامينيون، ومواطنون من الدرجة الثانية، وهم خليط من أجناس الدرجة الأولى، ومواطنون من الدرجة الثالثة، وهم المسلمون؛ حيث صنفوا على أنهم أجانب دخلوا بورما لاجئين، وصاروا بهذا القانون بلا هوية وحرموا من كل الأعمال وصار بإمكان الحكومة ترحيلهم متى شاءت.
بعد ذلك اقترحت الحكومة البورمية أربعة أنواع من الجنسية هي “الرعوي، والمواطن، والمتجنس، وعديم الجنسية”؛ ليصبح من حق الفئتين الأولى والثانية التمتع بالحقوق المتساوية في الشئون السياسية والاقتصادية وإدارة شئون الدولة، أما الفئة الثالثة فلا يمكنهم الحصول على الجنسية إلا بطلب يقدم للحكومة بشروط تعجيزية، أما “عديم الجنسية” فيحتجز في السجن لمدة، ثم تحدد إقامته في معسكرات الاعتقال ويفرض عليهم العمل في الإنتاج فإذا أحسنوا العمل يسمح لهم بشهادة تسجيل الأجانب على أن يعيشوا في منطقة محددة.
وفي عامي 1987م و1991م شنت قوات النظام العسكري حملات أمنية لـ”فرض النظام” زادت معها الانتهاكات بشكل غير مسبوق.
يمنع النظام مسلمي بورما من الالتحاق بالوظائف الحكومية، كما تم إجبار النسبة الضئيلة التي حصلت على وظائف على تغيير أسمائهم الإسلامية، كما منعتهم من حقهم في التعليم ما أدى إلى تخلف الروهينيجيين المسلمين، ولم تتوقف الحكومة عند هذا الحد بل حاربت التعليم الديني والعلماء القائمين عليه، ومن يسافر للتعليم في الخارج يُطوى قيده من سجلات القرية، ومن ثم يعتقل عند عودته، ويرمي به في غياهب السجون.
مارس النظام “البورمي” التطهير العرقي والقتل والتهجير والتشريد والتضييق الاقتصادي والثقافي ومصادرة الأراضي، وإلغاء مواطنتهم بزعم مشابهتهم للبنغاليين في الدين واللغة والشكل، فضلاً عن طمس الهوية والآثار الإسلامية وذلك بتدمير المساجد والمدارس التاريخية، ومنع ترميم ما بقي أو بناء أي مبانٍ لها علاقة بالإسلام من مساجد ومدارس ومكتبات ودور للأيتام وغيرها كما منع رفع الأذان في المساجد.
يستمر النظام البوذي في محاولات “برمنة” الثقافة الإسلامية وتذويب المسلمين في المجتمع البوذي البورمي قسرًا، بالإضافة إلى التهجير الجماعي من قرى المسلمين وأراضيهم الزراعية، وتوطين البوذيين فيها في قرى نموذجية تبنى بأموال وأيدي المسلمين جبرًا، أو شق طرق كبيرة، أو ثكنات عسكرية دون أي تعويض، ومن يرفض فمصيره الموت في المعتقلات الفاشية التي لا تعرف الرحمة.
ويجبر المسلمون على العمل القسري لدى الجيش أثناء التنقلات أو بناء ثكنات عسكرية أو شق طرق وغير ذلك من الأعمال الحكومية، بلا مقابل فيما يشبه نظام “السخرة”، ويجبر المسلمون وخاصة العلماء والوجهاء على إلحاق بناتهم لخدمة وحراسة الجيش والشرطة، ويمنعوا من السفر للخارج حتى ولو كان الهدف أداء فريضة الحج إلا إلى بنجلاديش ولمدة يسيرة وبعد دفع رسوم ورشاوى باهظة للعسكر.
ويعتبر النظام سفر مسلمي أراكان إلى عاصمة الدولة “رانغون” أو أي مدينة أخرى جريمة يعاقب عليها، وكذا عاصمة الإقليم والميناء الوحيد فيه مدينة “أكياب”، بل يمنع التنقل من قرية إلى أخرى إلا بعد الحصول على تصريح، بل حتى يمنعوا من استضافة أحد في بيوتهم ولو كانوا أشقاء أو أقارب إلا بإذن مسبق، وأما المبيت فيمنع منعًا باتًا، ويعتبر جريمة كبرى ربما يعاقب من يرتكبها بهدم منزله أو اعتقاله أو طرده من البلاد هو وأسرته.
وفرض النظام عقوبات اقتصادية كثيرة على المسلمين دون غيرهم مثل الضرائب الباهظة، والغرامات المالية، ومنع بيع المحاصيل إلا للعسكر أو من يمثلهم بسعر زهيد لإبقائهم فقراء، ولإجبارهم على ترك الديار.
ويشن النظام حملات تقليل أعداد المسلمين بأساليب شتى منها، إعطاء حقن مانعة للحمل للمرأة في حالات كثيرة، ورفع سن الزواج للفتيات إلى 22 سنة، منع عقود الأنكحة إلا بعد إجراءات طويلة وإذن من الشرطة، ومنع التعدد منعًا باتًا مهما كان السبب، ومنع الزواج مرة أخرى للمطلق أو الأرمل إلا بعد سنة من خلال إجراءات طويلة ومعقدة.
الأزمة الأخيرة
كان إعلان الحكومة البورمية أنها ستمنح بطاقة المواطنة لأهالي أراكان من الروهينيجا بعد ضغوط خارجية عديدة بمثابة صافرة الانطلاق للموجة الأخيرة من الإرهاب والعنف الذي مارسه البوذيون على أهالي الإقليم في محاولة لإيقاف القرار ومنع إصداره بأي طريقة خاصة وأنه سيؤثر على الانتخابات القادمة بعد تمكن المسلمين من المشاركة فيها، بالإضافة على خوفهم الشديد من انتشار الإسلام إذا ما حصل المسلمون على حريتهم.
الحادثة الأولى التي فجرت ما بعدها من أحداث كانت تَرصُد مجموعة من البوذيين الماجيين لأي تحرك من مسلمين يمرون على الطريق الواصل بين إقليم أراكان والعاصمة ليهاجموهم، وتندلع بعدها أحداث عنف يتمكنوا فيها من تشويه صورة المسلمين إعلاميًّا وصولاً لوقف قرار الاعتراف بهم ومنحهم بطاقات الهوية.
في هذه الأثناء مرت حافلة تقلّ مجموعة من العلماء والدعاة المسلمين منهم من عاصمة بورما “رانغون” ومن عاصمة ولاية أراكان “إكياب- سيتوي” وحين وصلوا إلى المكان الذي انتظروهم فيه هاجمهم قرابة الـ466 من الماجيين البوذيين ليموتوا جميعًا تحت أيديهم من شدة الضرب.
تمت عمليات القتل بصورة وحشية حيث تم تقييد هؤلاء العلماء من أيديهم وأرجلهم وضربوهم بالعصي على وجوههم ورؤوسهم ليتركوا أجسادًا برؤوس مهشمة وجماجم مكسَّرة وأعين مفقوءة.
أما الحكومة البورمية فرأت الأحداث بعين أخرى تمامًا حيث حاولت التغطية على الجريمة البشعة بالقول إن وراء اندلاعها تعرض فتاة بوذية للاغتصاب على يد ثلاثة شبان مسلمين روينجيين، مما أدى إلى حدوث مصادمات عنيفة بين الأراكنيين والروينجيين احترق على إثرها 3000 منزل، وأماكن تجارية، ومقتل العشرات بالرغم من أن القرية التي قالت الحكومة إن حادثة الاغتصاب وقعت بها بعيدة تمامًا عن مكان الأحداث والغالبية بها من البوذيين.
بناءً على هذا التبرير للحادث اعتقلت الحكومة عددًا من الشباب من المسلمين بتهمة الاشتباه في حادث الفتاة دون أي تحرك للقبض على المئات الذين قتلوا العلماء بالرغم أنهم ليسوا من أهل الإقليم بل من العاصمة ويحملون الجنسية البورمية وتم الاعتداء عليهم أثناء المرور بالمنطقة.
وردًّا على هذه المجزرة دعا المسلمون لمظاهرات يوم الجمعة 3/6/2012م، إلا أن قوات كبيرة من الجيش والشرطة البوذية أحاطوا بشوارع المسلمين تحسّبًا لأيّ مظاهرات وشغب في أراكان ومنعوا المصلين من الخروج مجتمعين, وأثناء خروجهم قذفهم الرهبان البوذيين الماج بالحجارة بقصد استفزازهم.
غضب المسلمون من هذه التصرفات المتتالية وقتل الدعاة دفعهم للثورة على هذا الواقع مما أتاح الفرصة أمام “الماج” ليردوا على ثورة المسلمين بإبادة شعب طال تخطيطهم من أجل إبادته.
فَرض الجيش حظر التجوال على الجميع والتزم المسلمون بالتهدئة، ورجعوا لمنازلهم فتمت محاصرة أحياء الروهنجيين المسلمين حصارًا محكمًا من قبل الشرطة البوذية الماجيّة, وتركوا الأمور تسير بشكل طبيعي للبوذيين الذين اقتنصوا الفرصة, للهجوم على قرى ومنازل المسلمين بالسواطير والسيوف والسكاكين, وبدأت حملة الإبادة المنظمة ضدّ المسلمين والتي شارك فيها حتّى كبار السن والنساء، والتي أدت إلى حرق أحياء وقرى كاملة للمسلمين تحت مرأى ومسمع الشرطة الماجية البوذية، وأمام صمت الحكومة التي اكتفت ببعض النداءات لتهدئة الأوضاع.
وبدأ النزوح الجماعي للمسلمين من إكياب ومانغدو بعد أن احترقت منازلهم وصاروا يهيمون على وجوههم في كلّ مكان, بأجساد عارية ليس عليها إلا خرق بالية, وبدأ تهجيرهم وطردهم والدفع بهم في عرض البحر على سفن متهالكة بلا طعام ولا شراب, فرارًا بأرواحهم وأطفالهم إلى مخيمات اللجوء التي لم يتمكن البعض من الوصول إليها وكان الموت أقرب إليه منها.
أما من تمكن من الوصول إلى ملاجئ البورميين ببنجلاديش فوضعهم لا يختلف كثيرًا عن الوضع في الداخل، سوى الفرار من القتل؛ حيث يعيشون في حالة مزرية، يحتشدون في منطقة تكيناف داخل مخيمات مبنية من العشب والأوراق وسط بيئة ملوثة ومستنقعات تحمل الكثير من الأمراض مثل الملاريا والكوليرا ولا تتوفر لهم أبسط مقومات الحياة

عن marsad

اترك تعليقاً